وكالات - طلال عوكل - النجاح الإخباري - عشر سنوات مرّت على الثلاثين من حزيران، يوم الخروج العظيم للشعب المصري، ليملأ شوارع القاهرة، ليعلن سقوط مرحلة وبداية أخرى.
كنت هناك في ذلك اليوم، حيث مررت بالقاهرة في طريقي إلى دولة الإمارات المتحدة، في زيارة اجتماعية.
خلال اليومين اللذين قضيتهما في القاهرة، كنت أُبادر السائقين العُموميين الذين ساعدوني في التنقّل مع العائلة، لتفقّد شوارع العاصمة، وحالة مؤسّساتها، وأهلها.
الكثير من السائقين، وربّما معظمهم كانوا من ذوي اللحى ولم تكن اللحية، لتدلّ على أنّ صاحبها، ينتمي لأيّ حركةٍ إسلامية سياسية.
أسئلتي كانت تبدأ بشيءٍ من التحفُّظ، تحسُّباً لأن يكون السائق منتمياً لـ «جماعة الإخوان المسلمين».
أعتقد أنّ هذا التحفُّظ يشكل واحداً من سلوكيات أهل غزّة الذين يمرُّون إلى مصر، فالأمر يتعلّق بالخشية من أن تظهر عليك علامات انتماء أو انحياز سياسي، قد تكلّفك إدراج اسمك في سجلّات الممنوعين من دخول مصر.
أهل غزة، مُنتمون إلى مصر، يحفظون تاريخها ومواقفها وأدوارها المُشرّفة، تجاه القطاع، فلعلّ جيل الكبار هم الأدرى، فقد تعلّموا تاريخ القومية العربية، وأكملوا دراساتهم في الجامعات المصرية مجّاناً، بالإضافة إلى القضية الأساس التي تتّصل بالدور التاريخي المجيد لمصر جيشها وشعبها في القضية الفلسطينية.
لم يختلف هذا الموقف لشعب مصر وجيشها رغم اختلاف الأنظمة السياسية، واختلاف الظروف، ومُرور الكثير من العقود.
شعب مصر لديه ثأر كبير تجاه إسرائيل يعود إلى سنوات الصراع، ثم: حرب 1948، حرب السويس 1956، حرب حزيران 1967، وما بعدها «حرب الاستنزاف» 1968 - 1970 وحرب أكتوبر 1973.
آلاف الشهداء وآلاف الجرحى والأسرى والمفقودين من المصريين، جعلت إمكانية فوز إسرائيل بتطبيع علاقاتها مع شعب مصر، تصل إلى مستوى الصفر، رغم مُرور أكثر من أربعين عاماً على توقيع «اتفاقيات كامب ديفيد».
السائقون ذوو اللحى، لم يكونوا ليتردّدوا في الإجابة عن أسئلتنا حول الوضع، وكان ذلك بالعموم يعكس مزاجاً ليس جيداً، في ظلّ حكم «جماعة الإخوان المسلمين».
قبل ثلاثة أشهر أو أكثر قليلاً من تلك الزيارة، كنت قد ذهبت إلى القاهرة، مرّتين: الأولى، ضمن وفد من الكتّاب ونشطاء العمل السياسي والاجتماعي، التقينا خلالها بالمجموعة المسؤولة عن الملفّ الفلسطيني في جهاز المخابرات العامة، وكان يترأس القسم اللواء نادر الأعصر.
أكثر من لقاء، ثم ترتيب لقاء مع وزارة الخارجية المصرية، كان الموضوع الأساسي يتعلّق بفلسطين، وكيفية مواجهة تداعيات الانقسام الذي كان وقع قبل نحو خمس سنوات وأدّى إلى سيطرة «حماس» على السلطة في غزة.
ومع أنّ الموضوع الفلسطيني استحوذ على النقاش، إلّا أنّ الحديث كان يمتدّ ليشمل وضع مصر، والمخاطر الإستراتيجية التي تواجهها.
كان الحديث صريحاً، في معالجة القضايا المطروحة بما في ذلك ما يتعلّق بمصر، وتخلّل ذلك تقديم بعض الأفكار والاقتراحات التي لاقت ارتياحاً لدى الطرفين.
في المرّة الثانية كنت في زيارة للقاهرة لحضور اجتماع مجلس أُمناء مؤسسة الشهيد ياسر عرفات. الاجتماع عادةً لا يستغرق أكثر من يومٍ واحد، ويتمّ في جامعة الدول العربية.
وكالعادة كان يحضر تلك المناسبة بعض قيادات منظمة التحرير وحركة فتح والسلطة الوطنية، حيث يشكّل الاجتماع فرصة لإجراء لقاءات وحوارات بين الحاضرين من الفلسطينيين، وأيضاً مع الأشقّاء المصريين.
وكالعادة، أيضاً، كان القائمون على جهاز المخابرات المصرية يحرصون على زيارة فندق سمير أميس الذي يقيم فيه أعضاء المجلس.
خلال تلك الزيارة، حضر إلى الفندق مسؤول الملفّ الفلسطيني اللواء نادر الأعصر، فالتفّ حوله، عدد من الحضور يحملون أسئلة مرتبكة تتعلّق بالأوضاع في مصر الكبيرة ومآلات الأمور.
اللواء الأعصر، مثل رجال المخابرات، يتحفّظون في العادة إزاء الحديث الصريح والمفتوح حول البلاد، فهم يفضّلون الاستماع أكثر ممّا يتحدّثون، وحين يتحدّثون فإنهم يكتفون بتعليقات وردود قصيرة ومتحفّظة. ذلك اللقاء كان مختلفاً، فلقد استفاض اللواء الأعصر، في تحليل الأوضاع في مصر، وكان واثقاً في تحليله من أنّ مصر الكبيرة، لا يمكن أن تسقط، ذلك أنّ أجهزة «الدولة العميقة»، لا تزال بخير، وهي قادرة على حماية مكتسبات الشعب المصري.
كان حديثه مَدعاة للاطمئنان، والثقة في المستقبل، بالرغم ممّا أحدثته تطوّرات ما عُرف بـ «الربيع العربي»، وهو التعبير المتفائل، لمؤامرة «الفوضى الخلّاقة»، و»الشرق الأوسط الجديد».
وسائل الإعلام المصرية، التي خاضت المعركة الداخلية والخارجية بكلّ قوّة، كانت تعكس إدراكاً عميقاً لطبيعة المخطّطات التي تديرها القوى الخارجية لتحييد مصر، من خلال تقسيمها إلى ثلاث دول كحدّ أدنى، وخمس كحدّ أقصى.
فوز «الإخوان المسلمين» في انتخابات العام 2012، لم يكن ليحسم الموقف من تلك المخطّطات، أو هكذا كان المزاج الشعبي، وكثير من النخب السياسية المصرية.
كان الخوف على مصر يسيطر على المشتغلين في السياسة والمجتمع، إلى أن وقعت الثورة الثانية في الثلاثين من حزيران، بعد عامٍ واحد من انتخابات العام 2012.
في الثلاثين من حزيران، خرج ثلاثين مليون مصري إلى الشوارع، يفرضون إرادتهم، ويفرضون عملية التغيير عَبر استفتاءٍ شعبي عارم، زاد المشاركون فيه عدد الذين انتخبوا الرئيس الراحل محمد مرسي.
في ذلك اليوم المجيد، نجت مصر، ونجت الأمّة العربية، ووضعت مصر سدّاً عظيماً أمام نجاح مخطّط «الفوضى الخلّاقة» التقسيمي التدميري لتدخل المنطقة في مرحلة جديدة تؤشّر على مستقبلٍ مختلف.