وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - ذكرتُ في مقال سابق، وبحسب المؤرخ خزعل الماجدي أنّ كتابة وتدوين التاريخ كانت في الماضي عبارة عن أدب وفلكلور وأساطير، ولم تصبح عِلماً إلا بعد التوصل لأدوات البحث العلمي، ونشوء علم الأركيولوجيا؛ وهو منهج حفري تفكيكي، يقوم بالبحث المعمق في متون السرديات والوثائق واللقى الأثرية، وقراءتها مجدداً قراءة نقدية تخضع للعلم والمنطق.
وهذا العلم استقل عن الفلسفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (شأنه شأن علم الاجتماع، وعلم الأديان، والأنثروبولوجي، وغيرها من العلوم الإنسانية)، ثم تطور بشكل لافت بعد النصف الثاني من القرن العشرين.
استكمالاً للموضوع سنناقش كيفية كتابة التاريخ، وللتسهيل يمكن تقسيم التاريخ إلى حقب: أطولها وأقدمها التاريخ الجيولوجي للأرض، وهو مهم لفهم بقية حقول التاريخ، ويمكن بل وبالضرورة تقاطعه مع علوم البيولوجيا والمناخ وغيرها، ثم تاريخ تطور البشر، وهنا سيدخل علم الأنثروبولوجي، وتاريخ الحضارات الإنسانية، وأخيراً التاريخ السياسي والاجتماعي للشعوب والمجتمعات، وتدخل هنا السير الذاتية.
ومن المهم معرفة أن عملية التأريخ بدأت في الألف الثالث قبل الميلاد، أي مع اختراع الكتابة، وقبل ذلك تسمى عصور ما قبل التاريخ.
ولأن عملية التأريخ تخوض في أحداث جرت في الماضي البعيد، ستعتمد بالضرورة على اللقى الأثرية (طبقات الأرض، الأحافير، الآثار المادية، العظام، المخطوطات..) وكلما كان التاريخ أقدم كانت العملية أصعب، وتصبح عملية التدوين عبارة عن استنتاجات منطقية مبنية على فهم وتحليل الأدلة الأركيولوجية. لذلك عندما تتشكل فرقة تنقيب لبحث تاريخ منطقة معينة أو حقبة زمنية ما، من المفترض أن تضم الفرقة علماء متخصصين في تلك الحقبة تحديداً، بالإضافة لآثاريين متخصصين في حقب أقدم أو أحدث، وعلماء في مجالات وحقول ذات صلة، مثل الجيولوجيا، علم النبات، المخطوطات، تحليل البيانات، متخصصين في الحاسوب لتكوين وتصميم الصور الافتراضية، الهندسة بفروعها، علم الأديان، اللغات.
وللتوضيح سنأخذ أمثلة، إذا عثر المنقبون على هيكل عظمي، يجري التأكد أولاً أنه لإنسان، ثم يتم حساب عمر العظام بالتحليل المخبري (عن طريق تقنية الإشعاع واضمحلال الكربون 14 لتقدير عمرها، وهذه التقنية تصلح فقط للمواد العضوية، وفيها نسبة خطأ تصل لعشرات السنين)، ومن خلال وضعية الهيكل يتم بناء تصور عام، فإذا كانت عظامه متناثرة يعني أن حيواناً ما قد افترسه، وإذا لم يكن مدفوناً فيعني أنه رحال أو صياد ومات وحيداً، أو ينتمي لمجموعة بدائية، وإذا كان صاحب الهيكل مدفوناً، فيعني أنه جزء من جماعة، وإذا عُثر على هياكل مجاورة فيعني أنها مقبرة وبالتالي هذه الجماعة استقرت لفترة من الزمن، وإذا كانت اتجاهات الدفن واحدة فيعني أن الجماعة لها عقيدة دينية، خاصة إذا وجد طوطم، وإذا كان مع الهيكل مقتنيات، فيعني أن الجماعة تؤمن بالحياة ما بعد الموت، وبتحليل العظام يمكن التوصل إلى استنتاجات لها علاقة بجنس الميت، وعمره، وكيف مات، وحالته الصحية أثناء حياته، أو سبب وفاته، وإذا عُثر على بقايا أسلحة في المكان، من خلال نوعية الأسلحة يمكن معرفة الحقبة الزمنية، ومدى التطور الذي وصلت إليه تلك الجماعة، وهل مات في معركة، أم نتيجة حادث.
وبالنسبة لعلماء الأنثروبولوجي الذين يبحثون عن الإنسان القديم، من النادر جداً أن يعثروا على هيكل سليم، بالكاد يعثرون على عظام، أو جمجمة، وهنا بالاعتماد على تقنية الكربون 14، سيحددون الحقبة الزمنية التي عاش فيها، ومن خلال حجم الجمجمة، أو طول العظام وشكلها سيعرفون إن كان من جنس "الهومو"، أم من الأجناس المنقرضة، وهكذا.
يعني يمكن بناء قصة اعتماداً على هيكل عظمي.. تماماً كما يفعل خبراء الأدلة الجنائية عندما يختبرون مسرح جريمة.. وكلما عثر المنقبون على لقى أكثر تكون القصة أكثر تماسكاً وأقرب للصواب، مثل بذور نباتات، أوانٍ، أدوات، مقتنيات خاصة.. ومن البديهي أنه في المراحل التاريخية الأحدث سيتم العثور على لقى وآثار أكثر، بسبب التطور، ومن خلال تحليل نوعية الأواني والأدوات المستخدمة، وطبيعة البناء، والرسومات، والنقوش، والمعابد والطوطم وغيرها سيتم التحقيب الزمني، وسيكون بمقدور العلماء فهم الفروقات بين الجماعات وتحديد خصائصها وسماتها. ومع ذلك يبقى ذلك مجرد تصور هو الأقرب للحقيقة.
ثم يأتي تحليل الآثار المادية مثل المعابد، القصور، الأضرحة، الطرق، المنحوتات، التماثيل، الأعمدة، المسلات، المخطوطات، وبمعرفة نوعية النقوش وطراز المعمار والهندسة المستخدمة والفنون وشكل البناء والأواني والأدوات المستخدمة.. يمكن معرفة وتحليل الحضارات والثقافات الإنسانية وترتيبها زمنياً، ومستوى التقدم الذي وصلت إليه.
وحتى مع وجود المخطوطات والمسلات والنقوش فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة لبناء فهم موحد لتاريخ تلك المنطقة، أو تلك الحضارة، أو ذلك الحدث.. فمثلاً عند تحليل المخطوطة يجب التفريق بين عمر المادة التي كتب عليها (الجلود، ورق البردي، الحجارة..) وبين عمر الكتابة ونوع الخط المستخدم، فقد يكون الجلد المستخدم أقدم بعشرات أو مئات السنين من عمر الكتابة التي عليها، وكذلك الجدران والمسلات، قد يأتي من يمحو النقوش، ثم يكتب عليها مجدداً، ثم يأتي آخر من بعده ويكرر العملية، وهذا كان شائعاً في تاريخ مصر القديمة مثلاً.
وأيضاً، ليس بالضرورة أنّ كل ما نُقش على المسلة أو كُتب في المخطوطة صحيح؛ لأن من يكتب عادة هم المنتصرون، وبالتالي سيكونون منحازين، ولن يكتبوا كل شيء، لكن ما كُتب أو نُقش سيعطي فكرة واضحة عن طبيعة تلك الحقبة، وعن شخوصها وثقافتها السائدة، ومستوى تقدمها.
وهنا ما يقوم به العلماء عند تحليل النص، ملاحظة نوع الخط، المفردات الشائعة، أنواع الحيوانات والنباتات، الأشخاص، والأحداث، ويجب التأكد من مطابقتها لتلك الحقبة، فمثلاً من غير المعقول أن نعثر على أسلحة حديدية ونقول إنها تعود للعصر البرونزي، أو يتم العثور على أسماء شخصيات ظهرت في عصور لاحقة، أو ربطها معاً في حقبة زمنية متصلة، في حين أنها تنتمي إلى حقب موغلة في القدم، أو نجد أواني فخارية وأدوات أو فنوناً تميزت بها شعوب معينة أو ظهرت في حقبة محددة ثم ندمجها مع حقب أخرى، وننسبها لأقوام آخرين.. وهذه الثغرات الفاضحة نجدها بكثرة في الرواية التوراتية.
في التاريخ السياسي والاجتماعي تصبح العملية في غاية التعقيد، خاصة أن المؤرخين قدموا لنا تاريخاً انتقائياً منحازاً، والتزوير الذي تم ليس بتحريف الوقائع وتغيير الأحداث وحسب، بل وبإخفاء الجزء الأهم من التاريخ، أو بتفسيره أيديولوجياً.
بالتأكيد عملية التأريخ أصعب وأكثر تعقيداً من هذا الشرح المبسط، لكن المهم أن نفهم حركة التاريخ بشكل علمي منهجي، بالاعتماد على الأركيولوجيا والسيسيلوجيا، وبعيداً عن نظريات المؤامرة، والسرديات القصصية، والروايات الدينية والفلكلورية.