عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - تم تشكيل لجنة خبراء فنية ضمت أكاديميين مختصين من كافة الحقول ذات العلاقة: مؤرخين، خبراء في المخطوطات والتنقيبات الأثرية، محللين سياسيين، رجال دين، صحافيين، كتّاب رأي.. وجميع أعضاء اللجنة أكاديميون محايدون لا ينتمون لأي حزب، وغير منحازين لأي طائفة، وغير مرتبطين بأي جهة أجنبية، ومعروف عنهم النزاهة والعدالة، والكفاءة.   
مهمة اللجنة الأساسية تقديم سيرة ذاتية موثقة وصحيحة ومتفق عليها من قبل جميع أعضائها عن حياة «محمد علي باشا»، والي مصر في الفترة ما بين 1805 - 1848م. شريطة الاعتماد على روايات شفاهية موثوقة لأناس عاصروا الباشا وتعاملوا معه بشكل مباشر، أو نقلوا روايتهم عن أناس آخرين عايشوا الباشا وتعاملوا معه، وبالاستعانة بأي أدلة أثرية أو مقتنيات مادية أو مخطوطات كتبها بيده، أو كتبها آخرون عنه ممن شهدوا عصره.
وبالفعل، بدأت اللجنة أعمالها، زارت القاهرة، وأغلب المدن والقرى المصرية، والتقت بالناس، واستمعت لهم، وأقامت فترة طويلة في القلعة، واطلعت على الآثار المادية، وعلى الوثائق، وجمعت البيانات، وصنفتها، وتحققت منها باستخدام أحدث الطرق العلمية..
ماذا تتوقعون نتائج أعمال اللجنة؟  
بعد سنتين عادت اللجنة وقدمت رواية غير متماسكة، وفيها تناقضات عديدة، وثغرات يصعب ردمها، وأخبار منقوصة.. والسبب حسب تقرير اللجنة ندرة الآثار المادية، وعدم العثور على مخطوطات أصلية، وبالطبع لم يكن ممكناً العثور على أشخاص عايشوا الباشا، الذي مضى على موته أكثر من 170 سنة، وجميع من التقت بهم اللجنة كانوا أحفاد أحفاد من عاشوا تلك الحقبة، وقد تناقلوا قصص الباشا شفاهياً، كما سمعوها من آبائهم، وفي المقاهي وجلسات السمر، بروايات متضاربة ومتباينة، تغلب عليها الأسطرة والمبالغات؛ فمنهم من رآه بطلاً وصاحب إنجازات ضخمة، ومنهم من رآه ظالماً ومستبداً.. ولم تتمكن اللجنة من تحديد يوم ميلاده بالضبط، ولم تقدم معلومات ذات قيمة عن فترة طفولته وشبابه، وقدمت صورة ضبابية وغامضة عن حياته الخاصة داخل القصر.. وكل ما تم جمعه وتوثيقه وتصنيفه وتنسيقه على شكل سيرة ذاتية شبه كاملة  كان بالاستعانة بالكتب والجرائد التي كتبت عن الباشا أثناء حياته وبعد مماته، وهي بالإضافة لقلتها، فإن من كتبوها كانوا من موظفي الدولة الرسميين، أو من أعداء الدولة، لذا لم تكن كتاباتهم محايدة، وبالتالي لا يجوز قبولها كلياً كما هي دون تمحيص وتدقيق.
المشكلة الأهم التي واجهت اللجنة أنها لم تكن تثق بأقوال وادعاءات من التقت بهم، خاصة بعد أن أجرت عليهم اختبارات عملية ونظرية وفحوصات سريرية، لاختبار مدى دقة ذاكرتهم، ورجاحة عقولهم، ومصداقيتهم، وقد أكد الطبيب النفسي أن أحداً منهم لم ينجح في تلك الاختبارات. باعتبار أنّ الذاكرة تخدع صاحبها.
وفي تجربة أخرى، تم اختيار شخصية أسهل، وطُلب من اللجنة تقديم سيرة ذاتية لشخص أقرب زمنياً، ويمكن العثور على آلاف أو ملايين الأشخاص من الذين عايشوه وشاهدوه وتعاملوا معه، فتم اختيار الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر»، والذي حكم مصر ما بين 1952 - 1970.
وللتسهيل على اللجنة، ولزيادة كفاءتها تم توسيعها، وإضافة خبراء في البيئة والجغرافيا والانثروبولوجي والسيسولوجيا، وعلماء نفس، واقتصاديين، ومحامين، وقضاة، وجنرالات جيش، وخبراء أمنيين، وضباط مخابرات وشرطة، ومختصين في علم الجريمة، والتحليل الإحصائي، وفي الميديا الرقمية.
وبالفعل بدأت اللجنة أعمالها، والتقت بشهود عيان، وأناس من مختلف الطبقات والشرائح ممن شاهدوا الرئيس أو عملوا معه عن قرب، أو شاهدوه في لقاءات عامة، كما اجتمعت اللجنة مع قيادات رسمية، وكوادر وظيفية مختلفة، وضباط وعساكر من الجيش والشرطة، ومع فلاحين ومواطنين وكتّاب ومثقفين، ونواب، ومن الأحزاب المعارضة.
واطلعت على مئات الوثائق والمستندات والمقالات والأخبار والتحليلات التي تناولت حياة الرئيس، وراجعت مقاطع الفيديو التي تظهر خطاباته ولقاءاته العامة.
وفي النتيجة، وبعد سنتين من العمل الدؤوب، لم تتمكن اللجنة من الاتفاق على رواية واحدة متماسكة، بل خرجت بعدد كبير من الروايات التي كان من الصعب التوفيق فيما بينها، فقد تداخلت الأفكار والرغبات والعواطف والخيال في روايات وأحاديث الناس، وفي الكتابات التي تم الرجوع إليها وتحليلها، وظهرت التناقضات في البيانات التي تم جمعها. كما أثرت الميول السياسية والمواقف المسبقة على شهادات الشهود.
كما لاحظت اللجنة تناقضات في الروايات حول الحدث الواحد، وكانت ترجع إلى التسجيلات والوثائق فتجد تناقضات أخرى، لاسيما مع اختفاء بعضها، والتلاعب في بعضها الآخر.
وفي تجربة ثالثة، تم اختيار حدث جديد جداً، وموثق بالصوت والصورة عبر مئات التسجيلات، والأغلبية الساحقة ممن شاهدوا الحدث وشاركوا فيه ما زالوا على قيد الحياة، هذه المرة تم اختيار ثورة 25 يناير 2011، والتي أطاحت بالرئيس حسني مبارك.
ومرة أخرى لتحسين ولزيادة كفاءة اللجنة وتسهيل مهامها، وللتأكد من الحصول على مخرجات أكاديمية موثوقة، تمت إضافة عناصر جديدة للجنة، من حقول أخرى، مع إمكانية الاستعانة بخبراء ومستشارين في أي مجال، ومن أي مكان في العالم، وبموازنة مالية ضخمة، وبصلاحيات كاملة، وإمكانية الاطلاع على كافة الوثائق والكتب والمراسلات، ومصادر المعلومات السرية والعلنية.
وبعد سنتين من العمل المستمر والمكثف، كانت النتيجة عدداً لا يحصى من الشهادات والأقوال والآراء والتحليلات التي يستحيل المواءمة فيما بينها، ويتعذر صهرها في رواية واحدة متماسكة.. حتى الأحداث المصورة كان يتم الاختلاف حولها، أحداث كثيرة نسيها الناس، وأخرى تم اختلاقها، أو تعددت أطروحاتها بشكل لا يصدق.
وفي اختبار تم تكراره عشرات المرات، كان يتم اختيار خطاب للرئيس مدته أقل من نصف ساعة، حضره مئات الأشخاص، إلى جانب عشرات الصحافيين والمراقبين وضيوف الشرف، والخطاب مسجل تلفزيونياً.. فكان يُطلب ممن حضروا اللقاء إعادة تسميع جمل كاملة من الخطاب وبنفس الكلمات، أو تلخيص محتوى الخطاب.. وفي النتيجة كل من أجري عليه الاختبار كان بالكاد ينجح في إعادة تسميع جملة واحدة، ولم يحدث أن تمكن أحد من تسميع أكثر من جملتين، عدا التناقضات والتباينات والاختلافات الشديدة في فهم محتوى الخطاب وتلخيصه .. الاختبار تم بعد يوم واحد من إلقاء الخطاب.. وعندما أعيد الاختبار بعد شهر لم ينجح أحد في تذكر جملة واحدة كاملة بشكل صحيح.
في النهاية استقالت اللجنة، أو أقيلت.. وتم تكليف لجنة وزارية مصغرة أنهت مهامها في شهرين فقط.
بهذه البساطة كُتب تاريخنا، وتاريخ العالم!