وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - يمكن اعتبار المعتزلة أول تيار تنويري من بين الفرق والتيارات الإسلامية التي ظهرت في العصرين الأموي والعباسي، فقد تضمنت أفكارهم ومبادئهم الكثير من قيم الحرية والعدالة والانتصار لقيمة العقل ضد ثقافة الجمود أمام النص المقدس.. وقد مثلوا نقلة نوعية تقدمية مقارنة بما كان مطروحاً آنذاك من أفكار وتوجهات أيديولوجية.. هذا من وجهة نظر تيار الحداثة والتنوير، أو من يمكن اعتبارهم معتدلين. بيد أنهم من وجهة نظر الفقهاء والسلفيين منحرفون عن العقيدة، وزنادقة.
ما يؤخذ على المعتزلة أنهم تحالفوا مع السلطان (الرشيد، المأمون، المعتصم، الواثق) ضد خصومهم من الفقهاء، إبان ما عرف حينها بمحنة خلق القرآن، وسكوتهم على اضطهادهم، بما في ذلك سجن وتعذيب الشيخ الجليل أحمد بن حنبل.. فقد أراد المعتزلة نشر أفكارهم من خلال السلطة (أي بالقوة)، ومن خلال النخب المثقفة، ولم يلتفتوا إلى عامة الناس، إذ كانت أفكارهم متقدمة وبمستوى أعلى مما يستوعبه البسطاء.. لذلك، ما أن آلت السلطة للخليفة المتوكل، الذي كان يبغضهم لأسباب شخصية حتى انقلب عليهم، ونكل بهم، وحرق كتبهم، وأمر بشتمهم على المنابر، حتى أوشكوا على الانقراض، وانتهوا إلى مجرد ظاهرة أتت وانتهت في لحظة تاريخية لم تتكرر من بعدها.
وهكذا ضاعت أهم فرصة كان بوسعها أن تؤسس لعهد يسوده العقل والتفكير، وأن تنقل المجتمع إلى مشارف التنوير والنهضة الحقيقية.. ترافق ذلك مع الهجوم السلفي الفقهي المتحالف مع السلطة، والمدعوم منها ضد الفلاسفة وعلماء الكلام وعلماء الطبيعة الذين ظهروا في القرون الثلاثة التي مثلت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية (800 - 1100م)، والتي انتهت بهزيمتهم، وانتصار التيار السلفي الفقهي وتسيد ثقافة تقديس النص، وتحريم التفكير.
هؤلاء الفلاسفة والعلماء والأدباء لم يشكلوا تياراً أيديولوجياً، ولا جماعة سياسية، ولم تكن السلطة بحاجتهم فعلياً، ولم ينشروا أفكارهم بين عامة الناس، فهي أفكار نخبوية أولاً، وتناقض ما كان سائداً من أفكار رجعية ثانياً.. لذلك، ظل نتاجهم الفكري والفلسفي والعلمي محصوراً داخل الكتب، ولم تبنِ عليه الأجيال اللاحقة؛ بينما استفادت منه أوروبا وهي في طريقها نحو عصر النهضة.
بضياع تلك الفرصة التاريخية دخلت المجتمعات العربية والإسلامية في حالة من الضعف والتفكك والتخلف والجهل واستبداد النظم الحاكمة، وما زالت ماضية في مسلسل انحدارها بتسارع رهيب وعجيب.
في العصر الحالي خاضت بعض البلدان العربية محاولات للنهوض والانعتاق، وبناء مجتمعات قريبة من الحداثة، تمثلت في تجارب حزب البعث (بشقيه العراقي والسوري) والتجربة الناصرية.. لكن تلك التجارب آلت إلى الفشل والهزيمة، لأسباب عديدة (سياسية واقتصادية وغيرها..)، لكن السبب الأهم (من وجهة نظري) أنها سعت لفرض رؤاها على الجماهير بالقوة والتعسف، أي أنها لم تعتنِ بالإنسان أولاً، بوصفه مواطناً، وشريكاً في الحكم وتحمل المسؤولية، بل إنها انقضت على إنسانيته، وحرمته من حقوقه، وتحولت إلى سلطات دكتاتورية..
من جانب آخر، يمكن النظر إلى تجارب دول الخليج على أنها محاولات لدخول عصر الحداثة (على الأقل هكذا يظن حكام تلك الدول)، فأقامت البنيان، وطورت البنية التحتية، وفتحت حدودها للسياحة، واستقدمت الخبراء الأجانب من شتى أنحاء المعمورة، وانفتحت على الثقافة الغربية، ولكن بأشكال تغريبية، بما يشبه استيراد المنتجات، فافتتحت فروعاً لجامعات مرموقة، وفروعاً لمتاحف عالمية، ولمطاعم مشهورة، وللشركات الدولية الكبرى في شتى التخصصات، ونظمت معارض لمنتجاتهم، واستضافت بطولات رياضية دولية، واستقدمت مطربين وفنانين وفرقاً موسيقية.
وهذا المسار بدأ تغريبياً وانتهى بصورة منتجات شكلانية، أي حداثة مصطنعة، لمست قشورها، ولم تقترب حتى من مضمونها.. ذلك لأنه مسار فوقي سلطوي لم تتبناه الجماهير، ولا قواها الحية، ولا منظمات المجتمع المدني (ربما لأنها ضعيفة أساساً، أو مغيّبة، أو تمت رشوتها وإسكاتها)، وفي النتيجة غُيِّب الإنسان بوصفه هدف ومحور وركيزة المشروع الحداثي.  
وهذه الصورة تتجلى في السعودية بشكل أوضح، فمنذ تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد حتى بدأ في مشروعه التحديثي، والذي تطلب منه التخلص من سدنة العهد القديم، وما يحملونه من قيم وهابية، فاتخذ سلسلة إجراءات تمثلت في تهميش هيئة الأمر بالمعروف، إضافة إلى مجموعة قرارات استهدفت إرضاء الشباب وتلبية طموحاتهم (في جانب الترفيه خصوصاً) وإرضاء المرأة، ومنحها الكثير من الحقوق التي كانت محرومة منها، إلى جانب مشاريعه التنموية والسياحية والترفيهية وغيرها.
لا شك بأن خطوات بن سلمان شجاعة، وقد اقتضت منه مجابهة المؤسسة الدينية (التي احتواها بسهولة غير متوقعة) ومجابهة الفكر الوهابي الذي ظل سائداً ومهيمناً على الثقافة المجتمعية على الأقل منذ ثمانينيات القرن الماضي.. ولكن ما سيحققه هذا المشروع لن يختلف بشيء جوهري عما حققه جيرانه في الإمارات وقطر؛ أي إنجاز حداثة شكلانية مصطنعة، ولنفس السبب: تغييب الجماهير، وعدم إشراكهم، وتغييب أي رؤية تقدمية إنسانية تهتم بالإنسان أولاً وأخيراً، أي ببنائه الروحي والثقافي والنفسي، وبحقوقه وحرياته.. وفي النتيجة ستبقى تلك النظم تمارس الاستبداد والفساد، وسيظل المواطن مهمشاً ومقموعاً، ولكن ضمن بنية تحتية متطورة.
هذا الخطأ القاتل لم تقع فيه الأنظمة السياسية فقط، فقد مارسته أيضاً الحركات والأحزاب السياسية والتيارات الفكرية.. فلو أخذنا الحركات الإسلامية مثالاً، سنجد أنها صورة مصغرة عن تلك النظم الاستبدادية، أي تغييبها للجماهير (يتم استخدامهم فقط في الحشود والمسيرات ولصناديق الاقتراع)، وتغييب الإنسان وإهمال أو مناهضة قيم المواطَنة، وقمع الحريات (عدم تقبل الأطراف الأخرى، بل ومحاربتها).. وهذه الصورة تكاد تنطبق على سائر الحركات والأحزاب السياسية الوطنية والقومية واليسارية والعلمانية.. أي تغليب الأيديولوجيا على الإنسان/ المواطن.
من بين تجليات الاهتمام بالجانب الشكلاني والمظهر الخارجي للحداثة التركيز على المرأة؛ الإسلاميون سواء حكموا دولة، أو حارة في حي شعبي، فإن أول وأهم اهتمامهم المرأة (لبسها، زينتها، حجابها، طاعتها لزوجها..)، وإذا حدثت مصيبة، أو تأخر المطر، أو غرقت البلاد في الفوضى فإن المرأة هي المسؤولة.. أما اليساريون والعلمانيون فإن مشروعهم الحداثي يكاد يتركز على المرأة (يجب أن تتحرر، وأن تخلع الحجاب، وأن تنال حريتها...)..
حتى الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية وقعت في الخطأ ذاته؛ عوضاً عن بناء الإنسان (الحرية والعدالة والمواطنة) قامت بقمعه ومصادرة حرياته بما فيها حرياته الدينية، ومنحته حرية جنسية..
النهضة والتنوير والحداثة لا تتحقق بالقوة، ولا من فوق، يجب أن تكون مشروعاً مشتركاً بين السلطة والجماهير والنخب المثقفة ومؤسسات المجتمع المدني، كلٌ حسب دوره ومكانته، بمسارات متبادلة ومتناغمة بين القمة والقاعدة..