وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - بعض الناس تضخمت فيهم «الأنا»، لدرجة أنها جعلتهم يجعلون أنفسهم مركز أي حدث، فمثلاً لو وقع زلزال أدى إلى تهدم مدن بأكملها، وأودى بحياة الآلاف من البشر.. حين يعلّقُ أحدهم عليه يبدأ بالقول: كنتُ نائماً، وصحوت فجأة، وقبل أن أشرب القهوة، فتحتُ التلفزيون وسمعتُ خبر الزلزال، فتفاجأت، وبدأت بالاتصال مع الأصدقاء، وبقيت حتى ساعات الظهر قلقاً وأتابع التطورات.. سيتحدث عن نفسه خمس دقائق كاملة قبل أن يدخل في الموضوع، ثم يصبح الموضوع: نومته، ويقظته، وقهوته، وتفاجؤه، وقلقه، واتصالاته.. بمعنى أنه صار هو مركز الحدث، ولا أهمية للزلزال نفسه، ولا لتداعياته، ولا للضحايا.
ومثال آخر: يحدث أن تتفوق فتاة في دراستها، وتتخرج من الجامعة بامتياز، وتحقق براءة اختراع مبهرة.. فتأتي الأم لتعلق على الموضوع، فتقول: هي ذكية طالعة على أخوالها، وأنا كنت أصحّيها من النوم، وأعد لها النسكافيه، والفطور، وأوصلها للمدرسة، وأغسل لها «مريولها» وأكويه كل يوم، وكنت متوقعة أن تتفوق وتخترع هذا الشيء العجيب.. ستتحدث عن نفسها مطولاً، لتصبح هي صانعة الحدث، وهي التي سهرت وتعبت، وسنعرف حينها أن مصدر ذكاء البنت أخوالها، وسبب تفوقها أن أمها كانت تغسل وتكوي مريولها كل يوم.. ويصبح الموضوع: النسكافيه، وعدم تفاجؤ الأم مما حدث.. وننسى أن الفتاة هي التي سهرت ودرست واجتهدت.
وهناك نوعية أخرى: يدخل شخص على تجمع (لنفترض أنه عرس، أو عزاء، أو سهرة أصدقاء) بمجرد أن يدخل يبدأ بالصراخ، والتحدث بصوت مرتفع، وطرح السلام بطريقة استعراضية، وإلقاء بعض التعليقات اللاذعة.. يريد أن يقول: ها أنا بجلالة قدري قد جئت، وبكل تواضع قبلت أن أجلس معكم، لذا عليكم جميعاً أن تنتبهوا لي.. ولأنه على هذا القدر من الأهمية يجب أن نعرف قصته، فيبدأ بالسرد: والله يا جماعة صحيت اليوم بدري، ودخنت سيجارة، وأكلت صحن حمص، وطلعت بالسيارة، وكانت الأزمة عند قلنديا، وصلت الشغل متأخر، وأنا مروح اشتريت خبز، وقلت للمرة اطبخيلنا بامية».. سيجعل من أحداث عادية جداً تحصل مع كل شخص  قصة تُروى، ويجب أن نسمعها.
في تلك المجالس، ستجد شخصاً مهمّاً (أو يعتقد أنه مهم) قد يكون ناشطاً في حزبه، فيجعل كل الحديث منصباً على إنجازات حزبه، وأهمية وجوده في حياتنا، وصوابية خطه السياسي، وشجاعة أبنائه، وحكمة قياداته.. وكل من سيخالفه الرأي سيصبح رجعياً، متواطئاً، انبطاحياً.. أما إن كان الشخص متديناً، فسيبدأ بإلقاء المواعظ والإرشادات، و»قال الله»، و»قال الرسول»، و»أجمع العلماء».. وكل من يبدي رأيه، أو ينتقد سيصبح كافراً، زنديقاً، منحلاً، ماسونياً.
وغالباً ما يكون هؤلاء متحدثين بارعين، وبنبرة خطابية، يعرفون كيف يستحوذون على الجلسة. منهم الحكاؤون الذين يمتلكون موهبة الحديث، وطلاقة اللسان، وسعة الخيال.. لن تستطيع مجاراتهم، لذا ستختصر على نفسك عناء محاولة الحديث، وتكتفي بالاستمتاع بقصصهم. ومنهم من يجيدون إلقاء النكات، فهم قادرون على إضحاكك حتى لو كانت النكتة سخيفة، أو قديمة، وحتى لو كان تعليقه عادياً ولو سمعته من غيره لن تضحك.. يتمتع هؤلاء بخفة الظل.
ولدينا «المتحدث الأستاذ»، الذي يتحدث بنبرة تعليمية وتقريرية، وكل آرائه عين الصواب، بيقين لا يتسرب إليه الشك، وتوقعاته لا تخيب، وتحليلاته أكيدة وفي العمق. ولا تقتصر المشكلة مع هؤلاء بثقتهم المفرطة بالنفس، بل وأيضاً بتسفيه وتسخيف أي رأي مخالف.. فمثلاً إذا أراد انتقاد «أليسا» سيبدأ بتسخيف هذا الجيل من الفنانين، وتحقير كل من يستمع إليهم.. فإذا كنتَ ممن يحبون «أليسا» فلن تجرؤ على مخالفته الرأي، وإلا ضمك إلى فئة المحقَّرين، أو تهيئ نفسك لخوض معركة عنيفة للدفاع عن ذوقك.. وإذا أراد إثبات دقة وصوابية وحكمة القائد الذي يؤيده، سيبدأ بالهجوم على خصومه وشتمهم.. وإذا أراد إثبات أن تصريحات ورأي القائد الذي هو من خصومه، سيبدأ بالقول: إن كلامه لا يصدقه إلا المجانين، وحتى الأطفال لا يقتنعون به.. فإذا كنتَ ممن صدقه وأيّده لن تجرؤ على التعبير عن رأيك، وإلا صرتَ من فئة المجانين، وأقل ذكاء من الأطفال.. يعني قضى عليك قبل أن تبدأ بالحديث.
وهناك «المتحدث العبقري»، الذي يفتي في كل شيء، ولديه جواب عن كل سؤال، حتى لو كان عن معدل الأمطار في بوليفيا. و»المتحدث المتذمر»، والذي ليس في جعبته سوى الشكوى ممن ظلموه: مديره الذي يغار منه، صديقه الذي طعنه، المجتمع الذي نبذه، المسؤولون الذين لم يقدروا موهبته، حبيبته التي تخلت عنه.. كوكب الأرض الذي سلط عليه كوارثه الطبيعية.. مثل هؤلاء تحيط بهم هالة من التشاؤم، وشحنات من الطاقة السلبية، ويعتقدون أنهم وحدهم من يعانون من الهموم والمشاكل، وعلينا نحن المترفون والمنعّمون أن نتفرغ لسماع شكواهم..
على أي حال هؤلاء جميعاً ألطف من المتحدثين الرسميين.. ومن الخبراء الإستراتيجيين الذين تستضيفهم الفضائيات.
المستمعون أيضاً يُقسمون إلى فئات، لدينا «المستمع القاضي»، وهذا يحتاج فقط إلى سماع خبر من «الجزيرة»، أو قراءة سطرين من «الفيسبوك»، أو مشاهدة فيديو على «التيك توك»، تكفيه لإطلاق حزمة الأحكام الجاهزة والمخبأة في عقله الباطن، ووفقاً لما تم تلقينه به منذ طفولته، فيبدأ بالتصنيفات، والتي تشمل دولاً وشعوباً وشخصيات ومفكرين وكتّاباً وقادة.. وهؤلاء إما وطنيون أو خونة، إما أتقياء أو كفرة، إما علماء أو جهلة، إما في الجنة أو في الجحيم.. لا توجد عنده حلول وسط، وعلى الجميع أن يتطابق مع مسطرته الدقيقة.
ولدينا «المستمع المعترض» دوماً، ولا يعجبه شيء، ولا يصدق خبراً، ويشك حتى في سرعة الضوء.. و»المستمع المحايد»، وهذا غالباً طيب القلب، يصدق أي خبر حتى لو قلت له: وقع حادث تصادم بين قطارين في نابلس.
ولدينا أيضاً «المواطن المستعجل»، وهذا له الأولوية دائماً، إذا دخل قسم الطوارئ في مستشفى يتوجب على جميع الأطباء والممرضين التفرغ له، أو للمريض المصاحب له، وإذا ذهب إلى البنك سيفعل أي شيء لتجاوز الدور لأن تأخر صرف الشيك الخاص به سيؤدي إلى انهيار البورصة، وإذا خرج بسيارته فعلى الجميع فتح الشارع له، حتى لا يتأخر عن إطلاق مكوك الفضاء قبل أن يدخل زحل في مسار المشتري.
الناس أجناس.. والمجالس أمانات، والكذب ملح الرجال.. هكذا تقول الأمثال الشعبية.