وكالات - رجب أبوسرية - النجاح الإخباري - بل قد يكون رئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بين أكثر من نارين، حيث يمكن القول ببعض المجازفة: إن النيران تحيط به من كل جانب، وهو الرجل الذي دخل عالم السياسة الإسرائيلية مبكراً من أوسع أبوابه، حين فاز العام 1996 فجأة على شمعون بيريس زعيم حزب العمل في ذلك الوقت، في أول انتخابات إسرائيلية مباشرة لرئيس الحكومة، والذي يعد أكثر رئيس حكومة أمضى وقتاً في المنصب، متفوقاً على دافيد بن غوريون ومناحيم بيغن، ولكنه سيواجه من التحديات والمشاكل بحكومته السادسة ما لم يواجهه من قبل، ولن يقتصر الأمر على المعارضة الداخلية، ورغم أن لديه الخبرة الكافية حين قاد خمس حكومات سابقة في حقول ألغام، أهمها كانت قد ظهرت خلال الأعوام السابقة، وتحديداً ما بين عامَي 2019 - 2022، حين تجندت قوى عديدة في ظل شعار وحيد، وهو الإطاحة الشخصية به، إلا أنه هذه المرة، وقبل أن ينتهي من تشكيل الطاقم الوزاري، كانت التحديات الداخلية والخارجية، تقف في طريقه تباعاً.
والحقيقة أن مجرد بقاء نتنياهو شخصياً في سدة الحكم أكثر من أربعة عشر عاماً، يعد أمراً غير منطقي في الدول الديمقراطية، حيث تدعي إسرائيل أنها واحدة منها، وما يزيد من حجم المفارقة أنه شخصياً متهم بقضايا اختلاس، بل لم يبتّ بعد بتلك الاتهامات التي ما زالت تتداولها المحاكم، لذا فإن خطة وزير العدل الخاصة بإعادة حالة التوازن حسب نتنياهو نفسه، بين السلطات، خاصة السلطتين القضائية والتشريعية، لا يمكن لأحد أن ينظر إليها، إلا على أنها محاولة منه للإفلات من العدالة التي يمكن أن تدينه، بما قد يؤدي به ليس فقط إلى الخروج نهائياً من المسرح السياسي، بل إلى دخول السجن، كما سبق أن حدث لصديقه آرييه درعي وزميله اللدود رئيس الحكومة الليكودي الأسبق أيهود أولمرت.
وكما سبق لنا وأشرنا أكثر من مرة، إلى أنه رغم أن معسكر اليمين بقيادة نتنياهو تجاوز في انتخابات الكنيست الخامس والعشرين حالة التوازن السابقة التي شلت الواقع السياسي الإسرائيلي طوال أربع سنوات، جرت فيها خمس جولات انتخابية، حيث فاز بأغلبية مريحة، إلا أن فوزه قد يكون بطعم الخسارة، نظراً إلى أن لكل شيء ثمناً، كما أن لكل أمر نهاية، فمع هذه الجولة الانتخابية حسمت الكثير من القضايا، ما يعني أن الاصطفافات والمعالجات ستختلف، وعلى ضوء ذلك سيجد نتنياهو نفسه بين أكثر من نارين.
أول النيران التي يواجها هو تحالف الحكم نفسه، ذلك أن الفجوة بين اليمين التقليدي ممثلاً بالليكود، واليمين المتطرف ممثلاً بالصهيونية الدينية، كبيرة، وذلك ارتباطاً بما جرى في نهر السياسة من مياه منذ نحو خمسين سنة، أي من أيام مناحيم بيغن وإسحق شامير، وحتى منذ أيام نتنياهو نفسه وشارون، وهذه الأيام، فالصهيونية الدينية لا تستند إلى قاعدة يمينية داخل دولة إسرائيل، أيْ يميناً سياسياً أو حتى أيديولوجياً، لكنها تمثل يميناً احتلالياً فاشياً، يستند إلى جمهور المستوطنين المستعمرين، وأكثر من ذلك يبدو أن كلاً من بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير لديهما طموح غير محدود، وليسا صورة عن نفتالي بينيت ولا حتى أفيغدور ليبرمان، وهما متدينان فعلاً، لذا تطرفهما غير محدود، ولا يبدو أنهما «براغماتيان»، يكتفيان بالمقعد الوزاري، ويهمهما تنفيذ برامجهما أكثر من المنصب الوزاري، وأكثر بالطبع من برنامج الليكود، والأهم أكثر من الحفاظ على الائتلاف الحاكم.
وقد ظهر بعد شهر وحيد في الحكم أنهما، أيْ سموتريتش وبن غفير، لا يتعاملان مع الحكومة بمنطق أنهما الأقلية فيها، وحساباتهما مختلفة تماماً عن حسابات الليكود، الذي يبدي قدراً من البراغماتية، خاصة فيما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة، وحتى مع دول الجوار التي لإسرائيل علاقات معها، مثل الأردن ومصر وحتى دول اتفاقية أبراهام، وقد ظهر ذلك جلياً حين حضر كل من مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية الأميركي تباعاً إلى إسرائيل مؤخراً.
وقد وصل الأمر ببن غفير للتهديد بالاستقالة، بعد أن اعتبر رد حكومة نتنياهو على إطلاق صاروخ من غزة رداً باهتاً، وبعد أن اضطرت الحكومة إلى تأجيل البتّ في طلب المحكمة العليا إخلاء الخان الأحمر، وأكثر من ذلك أعلن بن غفير علناً وبصراحة أنه لن يلتزم بما تعهد به رئيسه، أيْ نتنياهو، للملك عبد الله بعدم اقتحام المسجد الأقصى، هذا في الوقت الذي تعتبر فيه واشنطن الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس عامل تهدئة، وحثت على التمسك به خلال زيارة العاهل الأردني مؤخراً لواشنطن، وبعد زيارة نتنياهو الخاطفة لعمّان، بعد سنوات طويلة من الجفاء بين العاصمة الأردنية ونتنياهو منذ أيام صفقة عصر ترامب.
وبن غفير حسب ما أعلن ينتظر إقرار الميزانية، وأعلن مدة ثمانية أشهر فقط لتقرير مصيره مع نتنياهو، وقال: إنه إن لم ينجح في تنفيذ برنامجه المتطرف الذي بجوهره يعني تسريع عملية ضم الضفة الفلسطينية لإسرائيل، فإنه لن يكون مهتماً ببقاء الحكومة، وسيستقيل منها، وخروج بن غفير يعني سقوط الحكومة، وهكذا فإن نار التطرف قد تحرق نتنياهو، ذلك أن إطفاءها يعني إشعال نيران أخرى.
من هذه النيران الأخرى، التظاهرات المتواصلة كل أسبوع منذ تشكيل الحكومة الحالية، أيام السبت، والتي يصل بعضها إلى مشاركة مئة ألف متظاهر، فالجمهور المناوئ لليمين المتطرف، أولاً يئس من قدرة معارضي نتنياهو، بعد محاولات كل من بيني غانتس ويائير لابيد وضع حد له، ووجد في تقويضه مؤسسة الجيش لصالح متطرفي الصهيونية الدينية، كذلك خطته للسيطرة على القضاء، التي عدتها المعارضة بمثابة انقلاب، أسباباً مباشرة للخروج إلى الشارع وتولي مقود المعارضة خارج إطار الكنيست، ومنابر الإعلام.
على أن نارَي شركاء نتنياهو في الحكومة ومعارضيه داخل إسرائيل ليستا النارين الوحيدتين اللتين تنتظراه خلال ولايته التي مدتها رسمياً أربعة أعوام، ذلك أن التطرف مطلق السراح الذي يقوده سموتريتش وبن غفير يجلب رد فعل ميدانياً فلسطينياً يشعل الأرض المحتلة حيث يتواجد الشعب الفلسطيني والمستوطنون، ما يعني أن مشاريعه وسياساته لن تمر بهدوء، أو كما اعتاد تنفيذها دون جلبة أو صخب، وأكثر من ذلك انسداد أفق الحل السياسي تماماً، كذلك اشتداد عود المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية يعني أن النار التي يشعلها شريكاه بعد أن سلّمهما عود ثقابها، متمثلاً بسلطة الاحتلال في القدس والضفة الفلسطينية، قد تحرقه شخصياً، عبر إسقاط حكومته وهي ملاذه الأخير للهرب من القضاء، وليختم حياته السياسية، ليس كما انتهت مع بن غوريون مثلاً.
كما يمكن القول أيضاً: إن الحليف الأميركي سيبقى في عهدة الديمقراطيين بإدارة جو بايدن عامين مقبلين على الأقل، هذا إن لم تبق الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض ستة أعوام، هي كل ما يمكن لنتنياهو أن يحلم بأن يمضيها في رئاسة حكومة إسرائيل، وهي غير إدارة دونالد ترامب، بل هي لم تستطع أن تخفي تفضيلها للابيد، وحتى بعد عودته هو لرئاسة الحكومة، تحفظت على التعامل مع شريكَيه فيها، وهذا موقف غير مسبوق لأيّ إدارة أميركية سابقة.
هناك أيضاً نيران الإقليم، التي تحيط بإسرائيل، بدءاً من غزة ولبنان وصولاً لإيران، مروراً بسورية، ثم موقف إسرائيل الملتبس تجاه روسيا وأوكرانيا، وحتى دول الخليج، حيث يمكن أن نلخص الصورة بالقول: إن إسرائيل مع نتنياهو ستجد نفسها تمضي في حقل ألغام سياسي، يكفي لواحد منها أن ينفجر، حتى تحترق الدنيا كلها، وتحرقه معها.