وكالات - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - هل انزلق استخدام وسائط "السوشيال ميديا" إلى مستويات بات فيها تأثيرها السلبي أكثر من الفرص الإيجابية التي يمكن أن تقدمها؟ يحمل السؤال في طياته بذور قلق مشروع من أن توظيف "السوشيال ميديا" بات يضر بالثقافة العامة وبمنظومة القيم أكثر من دفاعه عن هوية البلاد وصلابة مكوناتها المعرفية. والسؤال بحد ذاته يشير إلى هذه الآثار السلبية التي بات يتركها التوظيف الخاطئ لهذه الوسائط للدرجة التي صار السكوت عنه يشكل مضرة وطنية كبرى، ويعيق فرص تقديم أي حلول للعديد من المشاكل الأخرى بسبب كل الاهتزازات الجانبية التي يحدثها هذا التوظيف. ولكن قبل الخوض في الإجابة عن هذا السؤال الافتتاحي، علينا أن نتوقف قليلاً أمام الحالة الراهنة المقصودة من وراء هذا السؤال.

يبدو الوضع مثيراً للشفقة وداعياً للشعور بالبؤس. تخيلوا ما يجري حولنا من بروز فطريات على الكثير من المنصات يتم تقديمها بوصفها وجوهاً مجتمعية تمثل المجتمع وتشكل مادة خصبة لواقعه وانشغالاته. تسجيلات أو بث مباشر أو مقاطع مضحكة بلا معنى سوى أنها تشكل مادة للتندر والتنمر ربما وللضحك وتزجية الوقت بلا قيمة. قد يتم البث من المطبخ أو بجوار غسالة أو قرب مزبلة أو دكان أو في الشارع. ويتم السب واللمز والردح واستخدام مصطلحات بذيئة وغير لائقة وغير إنسانية، وقد يتم تجريح الآخرين والاستهزاء بهم وتقليل قيمتهم والمساس بسمعتهم وامنهم الشخصي بحجة الضحك وتقديم المادة المسلية التي توفر المشاهدات المرغوبة من اجل الشهرة ومن اجل الحصول على العائد المادي الذي توفره هذه الوسائط في ترويج غير أخلاقي للانحطاط وتراجع القيم. تخيلوا كيف يتم المساس بالقيم والأخلاق كما بالكثير من الناس دون أي رادع أو وازع إلا لأن شخصاً ما قرر أن يصبح مشهوراً ومعروفاً على حساب الآخرين وعلى حساب السلم الأهلي.
طبعاً، هناك مساهمات جادة وحقيقية وينصح بمتابعتها، تقدم فيها المعلومات والحقائق بطريقة سهلة وسريعة وتفيد ولا تنزلق إلى المستويات الهابطة التي يشير لها الكلام السابق. ولكن للأسف فإن السائد الذي نشير له يقع في الخانة الأكثر رواجاً على وسائط التواصل الاجتماعي وهو ما يقلق وهو ما يجب التفكير في سبل الحد منه. لقد قاد كل ذلك إلى انحدار في الذائقة العامة، قد يمس مستويات مختلفة من تلك الذائقة ويصيب بعض مكوناتها بالعطب وبالتالي يمس جوانب مختلفة أخرى من حياتنا.
إن متابعة سريعة لبعض المحتويات التي يتم تداولها من بعض المشاركين تصيب المرء بالغثيان وتجعله يترحم على الزمن الذي كانت فكرة نشر المحتوى تثير صاحبها بالفزع خوفاً من ردة فعل القارئ أو المتلقي. بات الأمر، الآن، سهلاً. التطبيقات الحديثة جعلت الكل كاتبا والكل ناشرا والكل مزود محتوى. لا يوجد ثمة قوانين أو ضوابط يمكن أن تجعل من الشيء قيمة يتم السعي وراءها. كل شيء سهل وكل شيء ممكن وكل شيء يتم إنجازه دون عقبات. فقط، افتح شاشة موبايلك وانقر على التطبيق وسجل كل ما يمكن أن تقوله حتى لو كان هبلاً وغير مهم، وبصرف النظر عن الشخص الملقن للمحتوى حتى لو كان أمياً جاهلاً أو مأزوماً اجتماعياً أو يعاني من مشاكل مختلفة، لكن المؤكد أن كلها تشير وتقود إلى مصائب اجتماعية وأخلاقية غير متناهية. والأمر كذلك فإن المساحات التي وفرتها هذه المنصات كانت على حساب الحرية الحقيقية التي لا بد من مواجهتها ببعض القيم والأخلاق. بمعنى آخر، كانت على حساب منظومة القيم حتى بات الاعتداء على الحرية باسم الحرية مباحاً ومشجعاً عليه وسهلاً ومباحاً وهو جريمة لا تغتفر. إننا في ورطة أخلاقية حقيقية حين يتم استمراء الاعتداء على الحرية بحجة توظيف ما توفره تلك الحرية من مساحات.
المؤكد أن هذا الحديث يدور حول بعض الوجوه المتوفرة على المواقع المرئية. صدمني حين قرأت إشارة عن لقاء لـ"مشاهير غزة". بالطبع، المصطلحات تتغير معانيها عبر الزمن لكن يظل ثمة جوهر لا يتغير في الإحالة اللغوية. شيء يشير إلى صلب المعنى الذي لا يتغير عبر الزمن. بعض المنصات خرّجت بعض الشخصيات التي تتم متابعتها من باب التندر أو الفكاهة وقدمتها بوصفها شخصيات تحظى بإعجاب شخصي وعام واسعين. والأمر في الحقيقة ليست كذلك. حين قرأت وتابعت قلت فعلاً، إن اللغة حمّالة أوجه والمجاز فيها أقل ثقلاً من الدلالة.
بعض ما يجري يسيء بشكل كبير، وبعض الأكاذيب على هذه الوسائط تقلق وتقدم صورة مغلوطة عن القيم والأخلاق والثقافة وعن البلاد وعن غزة. ليس كل من حصل على "لايكات" يصبح شاعراً ولا كل من حصل على مشاهدات يصبح مشهوراً ومؤثراً ولا كل من كان عنده أصدقاء افتراضيون أكثر يصبح قدوة. هذا الفهم خطر على المجتمع وعلى الأجيال اللاحقة وتقع مسؤولية كبيرة على كل أصحاب التأثير المجتمعي الحقيقي في تداركه ووقف نزيف القيم الذي يجري في المجتمع. هناك مسؤولية لا يجب الهرب منها. مسؤولية تقول، إننا يجب أن نعيد صياغة مفهوم التأثير ومفهوم رأس المال الاجتماعي والإعلامي من أجل أن تظل هناك مستويات لا يمكن المساس بها حين يتعلق الأمر بالموقف وبالمادة المتداولة.
صحيح أن توظيف وسائط التواصل الاجتماعي في الكثير من بلدان العالم انحرف عن مساره الحقيقي ومساره الإيجابي ولكن عندنا المشاهد التي خرجت على بعض المنصات مؤخراً في غزة تشعر بالخجل. لقد هيمن هذا المحتوى الهابط بشكل مزعج على فضاءات لا يمكن أن يفكر فيها عاقل.
إعادة الاعتبار للمحتوى مهم عند التفكير في سبل صياغة رأي عام ورأي فاعل لا ينحرف عن الهدف الحقيقي لنضالنا الوطني ولقضيتنا المركزية حتى حين يتم تقديم مادة يومية غير مشبّعة سياسياً. الأساس ألا يتم الانزلاق إلى ما وصلنا إليه.