وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - في بدايات القرن العشرين، طرح المفكرون العرب السؤال الكبير: كيف ننهض، ونلحق بركب الحضارة؟ وكانت تلك لحظة تاريخية استشعر فيها العرب وحدتهم القومية، بعد قرون من التغييب والتهميش، وكانت فرصة للنهوض.. اليوم، وبعد مائة وعشرين سنة، نعيد طرح السؤال نفسه، مع سؤال إضافي: لماذا تأخرنا عن ركب الحضارة الإنسانية بهذا القدر المفجع؟
في الواقع، كثيرون تصدوا لهذا السؤال، وأغلبهم بنوايا طيبة، منهم من طرح أفكارا رائعة، ومنهم من طرح أفكارا تغريبية، أو ماضوية.. ولسنا هنا للحكم عليها، أو لتقييمها؛ ما يعنينا أنها كانت في أحسن الأحوال أفكارا مثالية، وغير واقعية، بدليل أننا ما زلنا نراوح مكاننا، بل إن مكانتنا كعرب في تدهور مستمر.  
الإجابة التقليدية والأكثر رواجا هي: الرجوع إلى الدين، والتمسك به.. وهي إجابة إنشائية، لأنها لا تتضمن حلولا وبرامج وآليات، وهي إشكالية، لأنها لا تشرح بوضوح إلى أي دين نرجع؟ أي إلى أي نموذج من النماذج المطروحة.. فإذا كان المعنيون "بالرجوع إلى الدين" هم عموم المسلمين، فهؤلاء قرابة الملياري إنسان، يعيشون في عشرات الدول والأقاليم بثقافات مختلفة، ينتمون إلى عشرات المذاهب والطوائف، وأمامهم عدد كبير جدا من التصورات والتفسيرات المختلفة للدين: الإسلام السني، الشيعي، الصوفي، الوهابي.. الإسلام السلفي والحداثي.. الإخواني والتحريري.. السلمي والجهادي.. التراثي والتجديدي.
طبعا الإجابة الجاهزة "هنالك إسلام واحد ونموذج وحيد".. وهذا أيضا كلام إنشائي تنفيه الوقائع، وتكذبه أحداث التاريخ.. حيث لدينا ما لا يُعد ولا يُحصى من تصورات وتفسيرات مختلفة ومتباينة ومتناقضة لفهم الدين وتطبيقاته: لدينا فهم المودودي وسيد قطب، مقابل محمد أركون، ومالك بن نبي، والجابري.. ولدينا العريفي والحويني ومحمد حسان وبرهامي، مقابل شحرور، وعدنان إبراهيم، ونصر أبو زيد، وإسلام البحيري، وعلي الدشتي، وجمال البنا.. ولدينا الحركات البراغماتية التي تبيح المشاركة في السلطة والانخراط في المجتمع، مقابل الحركات الأصولية التي تعادي كل السلطات، وتكفّر المجتمعات.. لدينا أحزاب إسلامية تقدمية تدعو للاندماج مع الحضارة الإنسانية، وتؤمن بالديمقراطية والحريات، مقابل أحزاب منغلقة متشددة، تعادي كل الغرب، ولا تؤمن بقيم العصر الحديث.. ولدينا مرجعيات الأزهر المصرية وقُم الإيرانية وهيئة الأمر بالمعروف السعودية، والدوحة (القرضاوي)، إلى جانب المرجعيات الرسمية التي تجسدها وزارات الأوقاف المقربة من الأنظمة، وهي مؤسسات تعكس الخلافات السياسية بين النظم الحاكمة وبين التصورات المتباينة للدين، وطالما تناقضت فيما بينهما.
ليست المشكلة في تعدد المرجعيات، وتباين التصورات المختلفة لفهم الدين، هذه مسألة طبيعية، المشكلة أن كل جهة تعتقد جازمة وبيقين تام أنها النموذج الوحيد الصحيح للإسلام، وما دونها باطل، وكل جهة ترفض التعايش مع الآخرين، بل إن الأمور وصلت إلى حد التكفير والصراعات العنيفة.. بالإضافة لمشكلة الطائفية التي قسّمت العالم الإسلامي.
يمكن تلخيص أطروحة الإسلام السياسي بأن الحضارة الإسلامية تقوم على الأفكار، فيكون التقدم والرقي وسيلة لنشر الفكر والسمو به، ومن خلاله، خلافا للحضارات المادية، التي تتمركز حول الأشياء المادية والملذات، وتجعل المعرفة لخدمتها دون اعتبار لعالم الفكر.  
أي أن هدف الحضارة الإسلامية وغايتها خدمة الفكرة الدينية والتي تتضمن سعادة الإنسان ورقيه وتقدمه.. لكن ما حصل تاريخيا في تجربة الخلافة الإسلامية هو التحول إلى خدمة الشعار، والأيديولوجيا الدينية السياسية، والنظام السياسي الذي يحملها، وصار الإنسان هنا مجرد وسيلة وأداة لخدمة النظام.. وفي المقابل، تحول هدف الحضارات المادية من تسخير المعرفة (العلوم والتكنولوجيا والفلسفة والآداب والفنون) من خدمة الإنسان، إلى خدمة رفاهية الإنسان من منظور نفعي مادي استهلاكي لصالح قوى الإنتاج (الطبقات الرأسمالية)، فصار الإنسان مجرد "مستهلك"، و"دافع ضريبة"، و"ناخب".. وفي الحالتين تمت التضحية بالإنسان.
وبالإضافة للأطروحات الإسلاموية، لدينا أيضا الأطروحات القومية، والتي تجسدت في فكر حزب البعث (بشقيه العراقي والسوري، اللذين خاضا صراعا مريرا فيما بينهما، وكانا تجسيدا للنظم الاستبدادية)، وفي الفكر الناصري، الذي تعرض لهزيمة مُرة في حزيران، ثم أجهزَ عليه السادات كليا. وكانت النتيجة ترسخ الفكر الإقليمي القُطري، وبروز الحركات الوطنية الشوفينية.
بالإضافة للأطروحات اليسارية والماركسية، ذات البعد الأممي، والتي تعرضت لانتكاسة قاتلة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، ولم يعد منها سوى هياكل حزبية وبقايا أطروحات فكرية تناضل للبقاء.
آخر تلك الوصفات، وأكثرها غباء وسذاجة "التوحد مع إسرائيل"، وأصحاب هذه النظرية الموقعون على "سلام إبراهيم"، الذين توهموا أن تقدم دول المنطقة (وهنا يختفي مصطلح الأمة العربية) سيكون من خلال إقامة علاقات مع إسرائيل على أساس التشارك والمصالحة والتطبيع.. تماما كما تفعل مريضة بالسرطان حين تجري عملية تجميل لشد بشرتها وتعيش آخر يومين من حياتها على وهم النضارة.
على أي حال، الإجابات متعددة ومتباينة، وبعضها فيه جانب من الصواب، ولكن، قبل الشروع بالإجابة عن هذا السؤال المركّب والمعقّد، يتوجب بدايةً التخلص من الأوهام التالية:
أولاً: وهْم أننا خير الأمم، فنظرة سريعة على واقعنا تبين أننا في قاع الأمم.. وهذا يعني أنه يتوجب علينا الاعتراف بالحقيقة بشجاعة، وتشخيص المرض بمنهج علمي دون ادعاءات زائفة. وهذا يتطلب إدراك أنّ إشكاليتنا معقدة ومتشعبة ومتداخلة، وبالتالي ليس هناك سبب واحد مسؤول عنها بالكامل، وبالتالي ليس هناك حل واحد، أو شعار وحيد يلخصها وينهيها، مهما بدا لنا هذا الشعار جميلا وقويا.
ثانياً: وهْم المظلومية، وأن الغرب الكافر يتآمر علينا، لأنّ من يتآمر على العرب والمسلمين في الواقع هم العرب والمسلمون أنفسهم، وأقصد بذلك النظم الحاكمة، وتحالفاتها الأوليغارشية، من نخب اقتصادية، وأمنية، وإعلامية، ونخب مثقفة، وأحزاب، وعشائر، وحتى جمهور الغوغاء والمغسولة أدمغتهم.  
ثالثاً: وهْم انتظار المخلّص، سواء كان المهدي المنتظر، أم صلاح الدين، أم الزعيم الأوحد.. فلن يأتي أي مخلّص، ولن يُبعث من الأجداث أي قائد منقذ، والمخلّص الحقيقي هو الشعب، بقواه الحية والوطنية المخلصة.
رابعا: وهْم الحل الشامل والسحري، والذي بناء عليه رفعنا الشعارات البراقة والأهداف الكبيرة.. فعودة الحضارة الإسلامية السابقة مستحيلة، مع توفر نفس الظروف والملابسات التي أنهتها. والخلافة تجاوزها التاريخ، وتحقيق الوحدة العربية وبناء الدولة المركزية التي تلغي الحدود أمر مستحيل، ومجرد حلم طوباوي، فالمشكلة ليست في حدود التجزئة، مشكلتنا أعمق وأشمل. وبدلا من ذلك يتوجب التركيز على بناء الإنسان، وحقوق المواطَنة، واحترام القانون، ودولة المؤسسات، وترسيخ قيم العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، واحترام التعددية، ومكافحة الفساد.. وتلك أهداف قابلة للتحقيق، وأكثر أولوية.