عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - لم تنطلِ الحرب الإعلامية الضروس، ولا الحرب الاقتصادية الشاملة التي شنها الغرب ضد روسيا على الناس، ولم يتمكن هذا الغرب من إبعاد شبح هزيمة بدأت تلوح في الأفق.
«اكتشف» الشعب الأوكراني الخديعة الكبرى، وذاق أمرّ ويلات هذه الحرب بعد أن حوصرت معظم مدنه، ودُمّر جيشه، وتشتتت قواه، وهُجّر الملايين من أبنائه وبناته، دون أن يفعل له هذا الغرب سوى التغرير به، والإمعان في تحريضه على «الصمود» و»المقاومة».
ويستحق هذا الشعب كل التضامن والتعاطف لما تعرض له من ظلم، وما تكبده من خسائر جرّاء هذه الخديعة التي تستحق أن تسمى خديعة العصر.
صحيح أن القيادة الأوكرانية تتحمل قسطاً وافراً من نتائج هذه الخديعة، وصحيح أن هذه القيادة ربما تكون هي، أيضاً، قد خدعت كما خدع الشعب الأوكراني، وكما خدع ملايين الناس في كافة أرجاء العالم، لكن هذه القيادة لم تمتلك «شجاعة» التراجع في الوقت المناسب، واستمرأت ـ على ما يبدو ـ لعبة الخداع، وكابرت وتمادت في هذه المكابرة «أملاً» في أن تحصل «معجزة» لإنقاذها بأي ثمن، دون طائل وبلا جدوى من أي نوع كان.
المفاوضات التي انطلقت في تركيا في الأيام الأخيرة بدأت ببعض الاختراقات الكبيرة، لأن القيادة الأوكرانية حسمت أمرها كليا لجهة (حياد أوكرانيا)، ولجهة (عدم الانضمام لأحلاف عسكرية) ولجهة (عدم التسلح النووي)، بل وعدم التدرب مع قوى خارجية، أو إقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها إلا بموافقة روسيا. كل هذه المسائل التي أقرت بها القيادة الأوكرانية هي عنوان لهزيمة معلنة، ليس لأوكرانيا فقط ـ فهذه مسألة محسومة ـ وإنما للغرب كله دفعة واحدة.
أما قضيتا القرم والدونباس «فما زالتا» قيد التفاوض، مع أن قضية القرم هي في الواقع خارج النقاش، وقضية الدونباس ليست قضية إلا من حيث ترتيبات لحقهما في الانفصال، وحقهما في شكل تقرير المصير على كامل المساحة الإدارية للجمهوريتين.
باختصار، فإن الحرب في أوكرانيا تضع أوزارها، ولم يعد في الواقع مع إقرار القيادة الأوكرانية بما أقرت به حتى الآن من داعٍ كبير لاستمرارها إلا من زوايا عسكرية موضعية وتكتيكية.
الحرب التي ستستمر لن تدور رحاها في أوكرانيا، لأن الحرب فيها وعليها هي قيد الترسيم النهائي، وانتقلت الحرب، الآن، على جبهات جديدة قد تستعر مجدداً على الصعد السياسية والاقتصادية والإعلامية والاستخباراتية، وغيرها من مجالات الصراع على النظام العالمي الجديد ومعالمه الرئيسة.
لن يسلّم الغرب بأن مشروع توريط أوكرانيا، و»التضحية» بشعبها على مذبح مخططاته لكسر الحلقة الروسية قد فشل، أو هو في طريقه إلى الاندحار تماماً، كما لن تتوقف روسيا عن مواجهة هذه المخططات بمجرد وقف إطلاق النار على الأراضي الأوكرانية، وذلك لأن الحرب على مرحلة ما بعد أوكرانيا هي الحرب الأصلية وهي جوهر الصراع، وهي أصل اللعبة وفصلها الرئيسي.
الاستنزاف العسكري المزعوم لا يقارن من حيث أهميته بالاستنزاف الاقتصادي الذي ترمي إليه الولايات المتحدة.
والحرب لمرحلة ما بعد أوكرانيا هي حرب الاصطفافات الدولية، وحرب الأحلاف والتحالفات، وحرب الأمن الدولي ومنظوماته في مجالات التسلح وتموضعات الجيوش، وضوابط الأمن النووي، وحرب المظلات النووية، وتوزيع الصواريخ النووية على الجغرافيا السياسية الأوروبية والآسيوية، أيضاً.
الحرب على مرحلة ما بعد أوكرانيا هي حرب على الجهة المالية، وعلى دور الدولار، وعلى موقع العملات العالمية في النظام العالمي. والحرب على الطاقة ومصادرها وممرات عبورها وعلى أسعارها، أيضاً.
والحرب لمرحلة ما بعد أوكرانيا هي حرب على المعادن والثروات، وعلى المياه، وعلى تكنولوجيات المعرفة والحروب السيبرانية والمعلوماتية وكل أشكال الذكاء الصناعي والثورات القادمة في مجال العلوم الأحيائية والورثاتية على وجه التحديد والدقة.
فهل سيقبل الغرب بالهزيمة في كل هذه الحروب، حتى لو سلّمنا جدلاً بأنه سيقبل أو سيتقبل الهزيمة على الأرض الأوكرانية؟
ثم إلى أي حدٍّ ستكون الهزيمة على الأرض الأوكرانية سبباً «وجيهاً» أو كافياً، أو إلى أي درجة ستؤثر نتائج الحرب في أوكرانيا على مدى وحدود قبول الغرب أو تقبله «لفكرة» الجلوس على طاولة المفاوضات للبحث في رسم إطار جديد لمنظومات العلاقات الدولية، وتحديد أسس جديدة لنظام عالمي جديد؟
هذه الأسئلة ما زالت مفتوحة على قوس واسع من الإجابات المفترضة أو المحتملة، وما زالت الإجابات الحاسمة عنها تدور وتتراوح بين التوقع والتخمين من جهة وبين تطورات سياسية واقتصادية وحتى اجتماعية في أوكرانيا وأوروبا وحتى في الولايات المتحدة من جبهة أخرى.
لنأخذ ـ على سبيل المثال ـ إذا خسر الحزب الديمقراطي الانتخابات النصفية القادمة في أميركا، وهو أمر بات بحكم المرجّح بشدة، فإن الإجابة عن تلك الأسئلة تصبح أسهل من الواقع القائم، لأن الحزب الجمهوري في هذه الحالة سينقل المعركة إلى مرحلة التصدي للصين كأولوية مطلقة في استراتيجيته التي نعرفها، وهي استراتيجية أكثر هجومية، وأعلى تورطاً في الصراعات الإقليمية وأكثر شراسة في الحروب الاقتصادية على الصين، وإذا أخذنا الاصطفاف الروسي الصيني المرتقب بعين الاعتبار في قراءة الحروب لما بعد أوكرانيا فإن الموقف الأوروبي لن يكون منسجماً مع المواقف الأميركية، وذلك لسببين اثنين على الأقل.
درجة التشابك ما بين الاقتصاد الصيني وأوروبا أعلى بكثير مما هو عليه مع روسيا، ودرجة اعتمادية أوروبا على الطاقة والمعادن والغذاء الروسي أكبر من القدرة على تجاهلها أو التغاضي عنها، وهو أمر قد يؤدي إلى اهتزازات اجتماعية ناجمة عن الأزمات الاقتصادية التي باتت على الأبواب حسب التقديرات الغربية نفسها.
فهل ستلعب هذه المسألة دوراً في النزعة «الاستقلالية» الأوروبية أم العكس؟
ثم أليس سقوط الشعبوية أو ضعفها، أو تناميها وانتعاشها بالمقابل سيكون له التأثير الحاسم في هذا الاتجاه؟
ثم ماذا لو أن روسيا قررت أن تعيد هيكلة اقتصادها على قاعدة «الاستغناء الأقصى» عن العلاقات الاقتصادية مع الغرب، فما هي أهمية الحرب الاقتصادية التي يشنها الغرب على روسيا في حينه، خصوصاً أننا نعرف جميعاً أن روسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع ذلك إلى جانب الولايات المتحدة؟!
لن يسلّم الغرب بسهولة، وسيحتاج إلى وقت قد يمتد لسنة أو سنتين قبل أن يسلّم بالأمر الواقع، لكنه سيسلّم في نهاية المطاف والسبب معروف وقاله الحكماء منذ زمن بعيد، وهو أن الوقائع عنيدة.
الغرب بات يشعر بأن «من حفر لأخيه حفرةً وقع فيها».. ويبدو أن ذلك ينطبق أحياناً على الحفرة التي يحفرها لعدوّه، أيضاً.