نابلس - حسن البطل - النجاح الإخباري - حاجباه العنبريان يضيئان سواد وجهه وفروة ظهره السوداء، ويمنحان عينيه مسحة من الحزن الدفين. إنه يتيم وتبنيّته.. ولمّـا يمرّ أسبوع على مصرع أمه برصاص لصّ. الكلب يشبه صاحبه، والولد يشبه أباه!
«إنه يشبهك» صاروا يقولون ضاحكين، وأنا لا أغضب من وجه الشبه ومن التشبيه. سنوات بعد موته غمّـاً وحزناً على فراقي صاروا ينظرون إلى صورة ابني (إن لم يروا وجهه) ويقولون ضاحكين: «إنه يشبهك» وأنا أشعر - هذه المرة - بالفخر من وجه الشبه.. ومن التشبيه.
«إنه يحبّك.. خذه ببلاش» قال بائع الشاي على الشاطئ، .. ثم امتدح أمه القتيلة، وكيف وثبت على لص ليلي أراد سلبه وهو نائم، فهرب اللص وهو يعرج، تاركاً له أربعة جِراء لم تندمل بعد جراحها أسفل بطنها.. حيث بقايا «الحبل السري».
انضم الجرو عنبر إلى العائلة.. فصرنا «عائلة مقدسة» لا تكتمل أركان العائلة المقدسة.. إلا بالحيوان (أي حيوان كان) وبالنبات (أي نوع من النبات).. وبالأولاد طبعاً. زوجان وولد؛ نبات وحيوان «عائلة مقدسة»!
كانت لديّ خبرة أيام الطفولة بالكلاب وجِرائها، لكنها كانت جِراءً هجينة، أو «جعّاريّة» نخطفها من أُمِّها.. ونلهو بها يوماً أو أسبوعاً، ثم نتركها - دون أسف - لمصيرها كلباً سائباً من كلاب القرية.
أما هذا «عنبر» فكان كلباً أصيلاً من فصيلة الكلب - الذئب (شيان - لو) Chien - Loup، أو كلب الرعاة الألماني.. حيث، بعد عامه الثامن، قد ينقلب إلى أصله «ذئباً» مفترساً، فينال - على الأغلب - رصاصة من يد صاحبه.
لم أكن أعرف، عندما عرفت وعمره شهر واحد، وضعته في كيس «خيش» ونويتُ إلقاءه في المكان حيث «تبنيّته»، فتشفّع له جاري الآخر، العمّ إيليا، وتعهّد بإطعامه وتدريبه كلباً للحراسة ضرورياً بعد أن فَلَتَ حبل الأمن في بيروت الغربية.
كان العمّ إيليا، عميد السن لموارنة رأس بيروت، وكان مرابياً في شبابه.. ومصارعاً، و»عازب الدهر»، وفي أرذل العمر، ومع انفلات حبل الأمن، خشي مضايقات الذين نكبهم.. فماذا تفعل «بندقية الصيد» القديمة لديه، إن لم يعززها «كلب - ذئب» هو ديدبان الليل الذي لا ينام؟
لم أفطن إلى أن «تدريب» كلب الحراسة يعني جعله أكثر شراسة.. وكنت أظن الأمر يتعلق بـ»تهذيب» طِباعِه. وسريعاً ما صار «عنبر».. يملأ الليل نباحاً، وفي بعض الليالي المقمرة «يعوّي بالمقلوب» كما تنبح الذئاب!
خلال نزهة يومية مع عنبر، التقيت عقيد شرطة لبنانياً متقاعداً. نظر إلى علو الأصبع الخامس في مؤخرة قائمتي «عنبر» الأماميتين، ثم نصحني بتدريبه لتنمية حاسة الشمّ لديه.. وهكذا تعلمت شيئاً جديداً.
كنت أمسك حجراً، أبصق عليه.. ثم ألقيه بعيداً، أو أخفيه، لينطلق الكلب ليعود بالحجر ويضعه عند قدميّ. كان يبدأ التفتيش راسماً الرقم 8 مكرراً ومتداخلاً بشكل دائرة كبيرة، ثم تصغر.. حتى يعثر على الهدف.
كانت حديقة البيت القديم وحشية تناسب هذا المخلوق نصف الذئبي، وبخاصة مع وجود «خرابة» مجاورة هي أنقاض بيت حجري قديم.. كانت ملأى بالقطط التي «اختفت» وبالأفاعي التي لم تعد تطلّ برأسها. وعندما كثرت جرذان الحرب والموت والمزابل، اضطررت لحصر «عنبر» في زاوية من فناء البيت، لأتيح للقطط السائبة أن تتولى أمر الجرذان.
زائر طارئ آخر الليل كان يجبرني على النزول من «البدروم» لعقل الكلب برسنه، وأحياناً لأفضّ مواجهة بينه وبين قطّة يجمّدها وجهاً لوجه، فيتقوّس ظهرها. هو «يهمّر» عليها وهي «تفحّ» في وجهه.. والمزيج صوت منكر يقطع نوم الجيران في هدأة الليل!
كان حمامه الأسبوعي الفاتر والمليء بالمطهّرات مشكلة في أيام الشتاء. أما المشكلة السنوية الكبرى، فكانت اقتياده إلى «بيطري» الكلاب اتقاء لداء الكلب.
في العام الثاني، رفض أن يسير في شارع قطعه إلى البيطري في العام السابق.. وفي العام الرابع وضعت مخدراً في حليبه ليتمكن البيطري من إجراء اللازم في عجيزة الكلب.
كنت أعود الرابعة فجراً من الجريدة.. ويكون عليّ أن أطعمه، ثم أن أخرج به «مشواراً» ليقضي حاجته.. فلا ينتهي «الواجب» الثقيل إلا مع أول الفجر، لأنه يأتي إليّ برسنه ويتوسل «أريد مشواراً».
لم أقتل صاحبي «عنبر» يوم خروجي برصاصة بين حاجبيه، تعهد العم إيليا أن يفعل.. ولم يفعل. كان يعرف أن الكلب سوف يغدو ذليلاً.. ثم أضرب الكلب عن الطعام حتى الموت، كما كتب العم إيليا إليّ وأنا في المنفى.
أنقذ الكلب «عنبر» العم إيليا من عمليتي سطو؛ والبيت من انفجار بعد تسرّب الغاز، وعقر 41 صديقاً في أيديهم وأرجلهم.. وعلّمني شيئاً عن «البيطرة»، ولقنني درساً أن لا أقترب من كائنات الـ»شيان - لو» Chien - Loup.
زحف على خمس قوائم، ولعق أصابع قدمي البارزة من صندل كنت أنتعله. أردت ترويض الدرّاجة النارية على الشاطئ، فعدت بجرو صغير.. سيشبّ وحشاً، وسيموت ذليلاً.

حـسـن الـبـطـل

* من قديم حسن البطل
2-9-1999