عيسى قراقع - النجاح الإخباري - في الثلج سارت الجنازة، جاء المشيعون رغم برودة الجو، قرأوا الفاتحة واطلقوا الاناشيد فانفجر الرعد في السماء، رأينا الأرض تفتت أغلالها ويركض فيها الشجر نحو السحاب، ترانيم الرعاة نسمعها فوق التلال، هدايا للأطفال في عيد الميلاد، الشهيد يغتسل بالأبيض والصلاة والسحب الماطرة.

الثلج هذا العام غزير، أصابع الشمس تحاول ان تلمس جسد الشهيد معين الأطرش بحنين يحترق، وتلقي عليه سلام الكواكب في الأعالي، تغسّله بزيت النجوم.

الثلج الأبيض يتساقط هادئا بطيئا يسير معنا في الجنازة بخشوع كأنه يبكي، غيمة تصير سريرا تحمل معين فوق تخوم البياض، كل شيء ابيض، هذا الفضاء يطل من شبابيك الثلج يلوح ببرق ورعد ورذاذ وماء، السماء تلقي على جسد الشهيد معطفاً من الثلج، طيور تقترب تهبط على سلم الفضاء تحك مناقيرها بزهور الورود، تفرش أجنحتها فوق جثمان الشهيد، صار الجسد الآن مكتمل القدمين واليدين من ثلج وضوء ورياح.

الثلج يضيء، سريرا ابيض مرفوعا على الأكتاف، السماء والهواء وحبات البرد وزهرة الجوري، الاولاد البنات والاصدقاء والقصائد والنار تجتمع في هذا الزفاف الذي يلبس ثوب البياض، برد وسلام على الشهيد، الثلج دافئ، مخيم الدهيشة يلتهب، زغاريد تطلقها النساء من النوافذ، دبكة فلسطينية على الارض البيضاء.

عائلة الشهيد معين الاطرش تنتمي الى زيتونة البدوي في قرية الولجة الضاربة جذورها في اعماق التاريخ، والده محمد الاطرش وجميع أشقائه وأعمامه وأقاربه وجيرانه اعتقلوا في سجون الاحتلال الاسرائيلي، جيش الاحتلال داهم منزل الشهيد عدة مرات، عثر الجيش في الخزانة على بيان ومسبحة من عجم الزيتون وسبعة حجارة، اوراق هربت من سجن الفارعة، لوحة فنية معلقة على الجدار لحصان جامح يحمل مقلاعا يقذف حجرا كبيرا للفنان المرحوم عدنان الزبيدي، وفي بيت معين الاطرش حدد القناصون بنك الاهداف العسكري، الرصاص الدمدم المتفجر، التصويب على الرأس او الصدر وفي القلب، الضربة على القدمين وتحت الخاصرة، الضربة للمخيم بين العينين وقبل طلوع الفجر وانطلاق المظاهرة.

بتاريخ 22/3/2004 استشهد الشيخ المجاهد احمد ياسين في هجوم صاروخي اسرائيلي في ذلك الفجر المصبوب بالموت في غزة، كان الشيخ عائدا على كرسيه المتحرك بعد آداء صلاة الفجر في المسجد القريب من منزله، وعلى أثر هذه الجريمة البشعة اندلعت المواجهات في كل مكان، وعلى المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم شارك معين الأطرش في المظاهرة المنددة باغتيال الشيخ احمد ياسين، اطلق جنود الاحتلال الرصاص عليه فأصيب بالعامود الفقري الذي أدى الى شلل نصفي واعاقة دائمة.

جلس معين الاطرش على الكرسي المتحرك الذي كان يجلس عليه الشيخ احمد ياسين، الشهيد يجلس مكان الشهيد، عجلات الكرسي تتحرك ولم تتوقف، وظل معين يتحرك الى ان ارتقى شهيدا يوم 12/12/2013 متأثرا بالجروح التي اصيب بها.

لم يستسلم معين الى الاعاقة والوجع لسنوات عديدة، كان يحرك كرسيه في الشوارع ويشارك في كل المناسبات، تجده صوب كل الاتجاهات، احلامه ظلت جسورا ممدودة فوق انهاره المتخيلة، كان شاهداً وشهيدا يرجئ الموت سنة وراء سنة حتى تكتمل الموجة القادمة.

يحق لنا ان نموت كما نشتهي، ان نموت لتختبئ الارض في سنبلة، كتب اولاد الدهيشة عبارة محمود دريش على الجدار واندلعت مظاهرة، اللاجئون يجتازون الحواجز والابراج المسلحة، يقتربون من القدس العاصمة، جهاز المخابرات الاسرائيلي حدد لاهل الدهيشة مسارين: اما الموت أو الأعاقة، لكن معين الاطرش يتقدم، دماء ملأت جسده، دماء تسير وراءه وأمامه وعلى جانبيه، لكنه لا زال يتقدم، يحرك البحر ويجدف يما تبقى من قوة لديه، لقد وصل، اطل على القدس، وقع مغشيا عليه.

المخيم محطة انتظار، هو اللامكان، دائما ينتظر حالما، وكلما جاء ليبني بيتاً من الانقاض التي تركها اجدادنا وراءهم قتلوه او صلبوه حتى لا ترتاح الارض والروح وتجف البذرة الثائرة.

المخيم محطة انتظار، كم قنبلة غسلت شظاياها بلحم اللاجئين وكم رصاصة؟ دفنوا التاريخ واخترعوا دولة وشعباً وعلما ورواية وخرافة، وفي الانتظار ولدت اجيال من شقوق الجدار، حركت الزمان والمكان بعكازة وارادة وذاكرة.

يلزم العالم وقت وموت لكي يفهم صوت المخيم ينسكب في آذان الناس، يلزم العالم ان يدرك ان الوطن هو الملجأ الاخير، وان سقط الوطن يصير الجسد هو الوطن والموت مرايا نجدد فيها الوصايا، من اسمائنا نأتي الى اسمائنا ، ضحايا ترث البطولة من الضحايا.

كان معين الاطرش يسعى الى المثول امام منصة المحكمة الجنائية في لاهاي، سيتلو بيان موته امام المدعية العامة السيدة الملف جاهز يا سيدتي فاتو بنسودا، جسدي المشلول سيتكلم بكل ما فيه من وجع ورصاص، وجه القاتل اعرفه جيدا منذ وعد بلفور حتى اخر حرب على غزة، الجريمة مستمرة، النكبة مستمرة.

يا قضاة المحكمة الدولية: لا تجلعوني اغادر الدنيا قبل احقاق العدالة الانسانية، فقد فقدت بيتي واصدقائي واقدامي، فقدت ريش الطفولة وأحترقت أجنحتي، لا شيء يعيد الي حياتي، لكن حياة الاخرين من ابناء شعبي مرهونة بألقاء القبض على المجرمين ومحاسبتهم ووضع حد لدولة اسرائيل الفاشية في هذه المنطقة.

يا قضاة المحكمة الدولية: احتاج الى موت عادي بسلام لا بطلقة غادرة، احتاج الى موت تحت اشجاري الواقفة، احتاج الى قبر واضح عليه اسمي وتاريخ ميلادي، لا الى سجن او رقم في ثلاجة باردة، احتاج الى حياة اراها في اطفال فلسطين الصغار لا يشنقهم قناص اسرائيلي على الجاجز وعلى السياج الفاصل في غزة المحاصرة، يا قضاة المحكمة الدولية: اعيدوا الي اقدامي اخرجوا الموت من جسدي ليتنفس المخيم ويستعيد الحياة هنا في الدنيا وهناك في الآخرة.

السماء ألقت على جسد معين الاطرش معطفا من الثلج في رحلته الخالدة، الثلج هو حداثة الارض عندما تخرج عن النص، اراد معين ان يكون عاشقا شتائيا وعاصفا في هذا الابيض الكوني، رحل الشهيد معين ولا زال الصيف مختبئا في داخله، لا زال قادرا على استخراج الجمر والنار من ثلج اليدين، رحل معين كأنه هو والثلج صديقان على درب الحرية.

*عضو المجلس التشريعي ورئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين السابق