نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - برحيل ترامب سيخسر العالم واحداً من أفضل المهرجين في السياسة الدولية في العقود الأخيرة. وعلى ما يمكن لأيّ مواطن على وجه هذا الكوكب أن يتذكر، فإن ترامب أكثر المهرجين السياسيين حضوراً، وأكثرهم مقدرة على أن يقدم عروضاً جديدة بين فترة وأخرى. عروض مسلية ومضحكة، وتكشف كيف يمكن لأي أبله أن يصبح زعيماً لأقوى دولة في العالم. وهذا ليس جديداً؛ إذ إن أكبر الإمبراطوريات في التاريخ وفي جهات الأرض الأربعة شهدت صعود بلهاء وغلمان وطائشين إلى عروشها. وإذا كان الحاضر صفحة من صفحات التاريخ، فإن حضور ترامب على مسرح التهريج السياسي يبدو أمراً مألوفاً أو هكذا سيبدو بعد أن يغادر للمرة الأخيرة البيت الأبيض.
فرحُ الكثيرون برحيل ترامب ليس حباً في بايدن، فالرجل لا أحد يعرف خيره من شره، لأنه لا أحد يمكن له أن يتوقع شيئاً أسوأ مما فعله ترامب، لذا فإن أي سياسي سيأتي بعده لن يبتدع أسوأ من تلك الموبقات التي ارتكبها. فصورة أميركا في العالم ليست جيدة وهذه ليست خطيئة ترامب؛ فمنذ انطلاق التدخلات الأميركية في دول الغير، ومحاولات الإدارات المختلفة من جمهوريين وديمقراطيين التأثير في سياسات الدول الأخرى، ودعم واشنطن للدكتاتوريات وتغنيها بالديمقراطية وفي نفس الوقت دعمها للاحتلال وقتل الأبرياء، وبيعها السلاح لمن يريد أن يحتل شعباً آخر أو يستعبد شعبه، وإلى جانب ذلك احتلالها بلاداً أخرى وتدميرها مدناً أخرى وتقتيلها لشعوب أخرى. إنها صورة بشعة جسدها الكثير من المقولات وعبر عنها الكثير من الأسئلة وترجمها الكثير من التصرفات. فلا يمكن أن تكون كلمة أميركا مرادفاً جيداً لأي شيء إيجابي في نظر الكثير من سكان الكوكب. صحيح أن ثمة انجذاباً نحو الهجرة إلى العالم الجديد، لكنه انجذاب نحو المختلف في ظل حالة الفقر والقمع التي يعيشها سكان الكثير من البلدان، فيما الكثيرون ينظرون إلى أميركا بوصفها شيئاً سيئاً. لقد أبدعت الإدارات المختلفة في الترويج لتلك الصورة السيئة التي لم تنجح أي إدارة في تغيرها وليس هذا التغير بمستحيل، لكن ثمة إصراراً غير مفهوم على الإبقاء على تلك الصورة.
إذاً ترامب لم يبتدع هذه الصورة، ولا هو من شوه صورة واشنطن الملطخة ببيع السلاح ودعم الاحتلال ومساندة قمع الشعوب، وربما تكون الكرة الأرضية بحاجة لمعجزة حتى يظهر قائد أميركي يقلب الطاولة في كل تلك القضايا. قد يأتي هذا القائد، لكن ليس في الزمن الذي تكون فيه واشنطن قوة عظمى. وهي على كل حال لن تخلد في هذا الموقع؛ لأن أحداً لم يدم له الحال قبل ذلك. قد يأتي من يلطف قليلاً من تلك المواقف المناهضة للقانون والمعتدية عليه التي تتبناها واشنطن، لكنه لن يغير كل شيء. وعليه، فإن الحال سيستمر بطرق مختلفة وبعبارات مختلفة لكن الجوهر سيظل ذاته.
ومع أن ترامب لم يبتدع أياً من هذا، إلا أنه كان الأكثر مقدرة على التعبير عنه. ببساطة وبفجاجة ومن دون مكياج، كان ترامب الوجه الحقيقي للسياسة الأميركية التي تبنتها واشنطن منذ تخليها عن مبدأ «مونرو» بعدم التدخل، وقت قررت أن تنشغل بالسياسة الدولية وتتدخل في سياسات الدول. ثمة رؤساء قبل ترامب قدموا صوراً واضحة عن السياسة الأميركية الخشنة بحق العالم، منهم بالطبع والأكثر تبادراً للأذهان جورج بوش الابن وقبله رونالد ريغان، لكن ترامب تفوّق على من سبقوه، فهو لم يلجأ للقاموس ليبحث عن الكلمات المناسبة، ولا اجتهد في كتابة الخطابات البراقة وتقديم المجاز ولا البديع من الكلام، إنه تكلم بعفوية وبلا مواربة، وعبر بشكل واضح عن الجوهر الحقيقي للسياسة الأميركية السائدة ولما يريده هو من مواقف. ترامب كان صادقاً في قول ما يجول في داخله، وفي تفسير مواقف واشنطن ضد شعوب العالم. لم يترك زاوية في الكون دون أن يشتبك مع ساكنيها، ولا ترك دولة لم يعبر عن موقف منها. بالطبع المواطن الأميركي لم يحاكم ترامب على مواقفه في السياسة الدولية، لكن أيضاً مواقفه الداخلية كانت موضع نقاش وتساؤل.
ربما لم يقصد ترامب كل ذلك، لكنه فعله، ومع كل ما قد يتعرض له من انتقاد إلا أنه كان مجرد سياسي أميركي آخر. ليس على العالم أن يثبت لأميركا أنها ليست ما كانت عليه في عهد ترامب، بل تقع تلك المسؤولية على واشنطن نفسها وعلى سياسييها، عليهم وحدهم أن يقدموا صورة مختلفة لأميركا التي تساند الاحتلال وتدفع تكاليفه وتدعم الطغاة وتمكنهم من ردع شعوبهم. عليهم تقع تلك المسؤولية وليس على أحد غيرهم.
ومع هذا، فإننا سنشتاق لتلك الأيام التي كنا نترقب «قفشات» المهرج ترامب، ونتبادل لقطات الـ»يوتيوب» ونتشاركها ونطلق العنان لضحكاتنا كلما استمعنا إلى مفارقاته العجيبة وفهمه ومنطقه الأعجب. سنشتاق إلى التندر عليه وإلى الجلوس لتبادل النكات والتصريحات على لسانه. سيخسر مسرح المهرجين مهرجاً عجيباً جاء إلى عالم التهريج من أسمى موقع سياسي، من سدة الحكم في أهم عاصمة بالعالم في هذا الوقت. سنخسر كثيراً بقدر ربحنا أنه خسر. وهذا المنطق العجيب هو جزء من المنطق الذي ترافق مع ظهور ترامب على الساحة. الآن سيذهب، رغماً عنه أو برضاه، عما قليل سيصبح جزءاً من حكايات الماضي، وربما يحاول العودة، لكننا سننشغل مثلما هي العادة بالوافد الجديد للبيت الأبيض، سنراقب ماذا سيفعل، وكيف سيزيل أثر تلك الضوضاء التي أحدثها سلفه. قد يدير ظهره للملف الأهم في الساحة الدولي (الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين)، وقد ينغلق على نفسه لأن ثمة أزمات داخلية كثيرة، لكنه بكل تأكيد لن يستطيع التخلص من شبح سلفه الذي أحدث «كركبة» وفوضى في كل مكان وقعت عليه عيناه.