د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - يتداول الكثير من الناس رواية مشهورة لرئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل، حين اندلعت الحرب بين المانيا وبريطانيا، ووقعت بريطانيا بين فكي القصف الألماني المستمر، وتدمير الحياة الاقتصادية والعمرانية لمدنها ومنشأتها، حيث قيل لتشرشل ان البلاد قد دمرت، فسألهم: ما وضع القضاء والتعليم؟ فقالوا له: مازال القضاء والتعليم بخير. فقال لهم: إذا البلد بخير فلا تخافوا. لكن ما الذي يجعل تشرتشل يهتم بموضوع القضاء أكثر من اهتمامه بالاقتصاد وحالة الدمار شبه الكامل لبلاده!  وما الذي جعله ينظر يعتبر ان المقياس بين انهيار الدولة وتقدمها هو مدى صلاح منظومة العدالة وعلى راسها القضاء فيها! 

الواقع ان تشرشل لم يكن أول من انتبه لهذا المعيار، فقد ذكر ابن خلدون وقبله سقراط وغيرهم الكثير من الفلاسفة والمفكرين أن صلاح القضاء هو الخط الفاصل بين نهضة الأمم وتخلفها.  وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أن فساد القضاء يفضي إلى نهاية الدول. ذلك ان مقومات النهضة، لاي دولة، ترتكز بداية على قوة وصلابة انتماء أبنائها لتلك الدولة، وشعورهم بالمواطنة والانتماء. وهذا الامر لا يمكن ان يتكون لدى المواطن إلا إذا شعر ان حقوقه مصانه، وان هناك نظام عادل سينصفه، إذا احتاج يوما اللجوء اليه. بينما يؤدي فساد المنظومة القضائية، الى فقدان المواطن لثقته بالدولة، كونها لن تنصفه، وبالتالي يتكون لديه انتماء للذات بدل الانتماء للدولة، ويأخذ الافراد بالبحث عن بدائل غير قانونية وغير حضارية، كالاعتماد على الرشوة، او اللجوء الى سلطة القوة وفرض الامر الواقع، حتى إذا انصرف الناس تماما عن الدولة، سادة الفوضى وتشكلت شريعة الغاب. 

من اجل ذلك وغيره الكثير، كان تشرشل مهتم بالسؤال عن القضاء أكثر من اهتماه باي امر اخر، فالقضاء يمكنه ان يعيد نهضة الدول، ويرمم ما دمرته الحروب، كما يمكنه في المقابل ان يكسر الأمم المتقدمة، ويدمر ما اصلحته الجيوب. فالعدل، هو بلا ريب، أساس الحكم، وفي ظل دولة العدل، تشهد الامة ازدهاراً وتطوراً وتقدماً في كل مناحي الحياة. فصلاح المنظومة القضائية، تعني ان عجلة الاقتصاد ستدار بشكل بناء وفعال، لان المستثمر سيشعر بالاطمئنان على أمواله، وسيشعر العامل وصاحب العمل، بان حقوقهم مصانة، وسيطمأن كل من قدم فكرة او الة او مادة لبناء عجلة الاقتصاد ان جهده مصان سواء امام تعدي الافراد او حتى تعدي الدولة. وهذا الاستقرار المالي سينعكس ايجابا على دفع عجلة الاقتصاد وتقدم الدولة في هذا المجال. كما ان القضاء سيكون المراقب لحقوق المواطنين في التعلم، والمعرفة، والتعليم، بل وصيانة ملكيتهم الفكرية والفنية وحقهم بالحصول على كافة الامتيازات التي تمنحاها الدولة أو القانون لمن يستحقها من أصحاب الأفكار الإبداعية، والاعمال الفنية والأدبية.  وبذلك سيكون باب المنافسة العادل والشفاف مفتوح على مصراعيه لكل من ملك موهبة او فكرة إبداعية، مما يتيح المجال لتدفق النهضة المعرفية والعلمية، وتقدمها، وهذا كله سينهض بالدولة ويرتقى بحضارتها. كما ان محاسبة المجرم والفاسد على جرمه، مهما على شانه، ومهما دنى او اقترب من مراكز القوة وأصحاب السيادة، سيجعل المواطن يطمأن على نفسه وماله، مما يعزز لديه مفهوم المواطنة واحترام الدولة والانتماء للقانون. 

ولا يقل أهمية على ما سبق، بل ربما يفوقه ويتقدم عليه، دور القضاء في حفظ الحقوق السياسية والإنسانية للمواطنين، بشكل يضمن العدل والمساواة لجميع الافراد مهما كان مركزهم او قوتهم، ويضمن أيضا سرعة محاسبة من تكشف فساده وافساده، ورفع الظلم عمن تعرضت حقوقه وحرياته للتضييق او الامتهان. وبالتالي فان تقدم القضاء واستقلاله، يعد أكثر أهمية، واعلى شأنا، من تقدم نصوص القوانين وقوتها. فمهما كانت القوانين عصرية ومتقدمة، إذا خلت من قضاء قادر على تطبيقها، وتفعيلها بشكل عادل وشفاف، ووفق معايير المساواة وسرعة التقاضي، فإنها ستكون مجرد قوانين مركونة على الرفوف، او زجاج مزهرية خالي من أي مضمون وقابل في نفس الوقت للكسر والتحطم. 

من هنا نجد ان الأمم المتقدمة والدول المستقرة، تعلم ان اول خطوات الإصلاح والنهضة لابد ان يتقدمها تأسيس قضاء مستقل، حتى تكون الدولة قادرة على استقلال قرارها الوطني، وحتى تتمكن الامة من تحقيق النهضة الحضارية التي سيفجرها شعور المواطن بالأمن والطمأنينة والعدالة والاستقرار. في المقابل، إذا فسد القضاء، او اختلت موازينه، فستختل حينها اركان الدولة، ومرافقها، وستنهار شرعية النظام امام مواطنية، وسيفقد الوطن قدرته على البناء والتقدم. 

ان صلاح القضاء يتمثل بثبات اركانه، واستقلال قراره، وسلامة هيكليته، واهيلة أبنائه، وقدرة فرسانه، وصلابة احكامه، وهيبة مكانته. وحتى يتحقق له ذلك فهو، أي القضاء، يحتاج الى توافق جمعي بين افراد المجتمع وعناصر الدولة ومؤسساتها، على ضرورة استقلاله بشكل يضمن عدم التدخل او الدخول على استقراره. كما يحتاج الى هيكلية سليمة وفاعلة بحيث تضمن التوزيع العادل والشفاف سواء في التسلسل الإداري، او التفتيش والمراقبة، او التوزيع الإداري والجغرافي والوظيفي، لرجال وأعضاء ومراكز القضاء. والاهم ان تكون الية اختيار من أوكل إليهم النظر في دعاوى الناس ومصالحهم، على اعلى درجة من الشفافية والعدالة. وان يخضع من تم اختيارهم ليكونوا فرسانا للعدالة، للتدريب والتطوير الفاعل والمستمر، حتى يكونوا قادرين ومؤهلين على فهم النصوص واستيعابها، ولديهم ملكة النقد والتحليل القانوني، ومهارة الغوص في أعماق بحر الفقه والقانون لاستخراج أفضل ما يمكن فقهاً ولغةً وتسلسلاً وحكماً ودقة، بأسرع وقت ممكن وبأفضل الوسائل المتاحة. 

ومن هنا يعبر مستوى رضا المواطنين عن القضاء، ومدى ثقتهم باللجوء اليه والالتزام بأحكامه، عن حقيقة صلاح القضاء او فساده.  وبالتالي لابد من قياس مستمر لموقف المواطنين من أداء القضاء ودوره. وفي رأيي ان قياس مستوى رضا المواطنين عن القضاء لا يتأتى عبر استبيانات مدفوعة، او مقابلات عشوائية، ولا عبر تشكيل منظمات او جمعيات او مؤسسات ممولة او غير ممولة، ولا عبر هيئات شعبية او حزبية، ولا حتى عبر مقابلات إعلامية أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي او بيانات صحفية او رسمية، بل يمكن قياسه فقط عبر الاستماع لضمير الامة الكامن في وعيها الجمعي. فحقيقة شعور الناس نحو القضاء وحقيقة رضاهم عن أدائه، يمكن قياسه بدقة ووضوح، إذا استمعنا بإنصات وصدق لما يقوله وعي الامة الجمعي. فلا أصدق حكما على الدولة وواقعها مما يقوله ويعبر عنه الوعي الجمعي للمواطنين، إذا خلصت النوايا وصدقنا مع أنفسنا.