مهنا الحبيل - النجاح الإخباري - "إن بنية الشركة وبيئتها تنتجان هذه السلوكيات غير الأخلاقية بل الإجرامية. عن الطريقة التي يفكر من خلالها الناس في أفعالهم والموقف (كمسؤول ضمن هيكل الشركة الإداري) لها دخل كبير، في استعدادهم، لاقتراف جرائم متعدّدة"/ جوزيف هيث
يطرح فيلسوف الأخلاق الكندي في جامعة تورونتو، جوزيف هيث، دراسةً نقديةً، تحدد أربعة معايير مهمة، لمحاولة وضع إطار تحديد وسائط الإجرام في السوق العالمي الرأسمالي، المهيمن على حركة الإنسان الاقتصادية، لتتمكّن الفلسفة الأخلاقية من حماية المجتمع البشري من هذه التعدّيات المتعاظمة، والمتتالية على كوكب الأرض بكل سكانه. ولافت جداً أن هيث يستخدم مصطلح السياسات العدائية، العداء، المعادية، في رسم سلوك السوق وخططه ضد المجتمع، فقد يعتقد بعضهم أن هذا الوصف مبالغ فيه، غير أن ذلك يتغيّر، حين نفهم صراع السوق، ونحصي خسائر الأسرة البشرية في أرواحها، وصحتها واستقرارها النفسي، فضلاً عن تحريض النزاعات لصالح سوق المال، جراء هذه السياسات.
تجب الإشارة هنا إلى ملاحظة مهمة لوائل حلاق، وهي توريط المجتمعات، والتي هي في الأصل مجتمعات طبيعية، تأنف من الانحراف السلوكي المضرّ ببيئتها، أنها تأثرت بنوع من الطمأنة الخادعة التي تروّج عن أن هذه السلوكيات، هي مجرّد نوع من الشذوذ النفسي للشركات، من خلال نمط خطابي حاشد مضلل، وبالتالي، اخترقت هذه السلوكيات المجتمع، فأصبح بيئة مسوّقة (أخلاقياً) لجريمة الشركات في مجتمعاتها.
إنها عملية معقدة، وتحتاج منظومة تفكيك تفصيلي، لكن الخلاصة أن المجتمعات تعجز عن آليات التحييد لحماية ذاتها وأفرادها، لتمكّن سلوكيات السوق فيها، وأحسب أن هذه معضلة لا تقف عند الحياة الاقتصادية، وإنما السياسية والثقافية، وهكذا تُحتجز المجتمعات، تحت مواسم طويلة من البطش والابتزاز، ومنظومات السلوكيات الإجرامية، تستمد قوتها من داخل المجتمعات الضحية.

تعجز المجتمعات عن آليات التحييد لحماية ذاتها وأفرادها، لتمكّن سلوكيات السوق فيها، وهذه معضلة لا تقف عند الحياة الاقتصادية، وإنما السياسية والثقافية

يرى هيث أن أول المعايير البيروقراطية الضخمة في عالم الشركات، والثاني حصر السوق بمرجعية معلومات داخلية، يُهيمن عليها السوق نفسه، فلا يستطيع الأفراد الخروج عنها، لغياب مفاهيم التحرّر من هذه السوق، المؤدية إلى ضمان صحة المعلومة، والثالث العداء الأيديولوجي (يعده هيث أيديولوجية، وهو أن الربح والتفوق تحول إلى معتقد (أخلاقي) لا نمط اقتصاديا تشاركيا)، هذا العداء موجه ضد أي تنظيم للسوق لصالح الناس مضرّ بهذه الأيديولوجية، والرابع العلاقات العدائية التنافسية بين الشركات نفسها، على حساب المجتمع.
يتعقب وائل حلاق هيث بنقد في تحديد المسارات الأربعة، لوسائط الإجرام في الشركات الرأسمالية، ويرى أن ثقافة المجتمع نشأت في الأصل التكويني الغربي، وهو هنا يُحيل إلى عهود ودورات الحداثة المادية، للعالم الجديد، هذه الثقافة أُسّست ابتداءً خارج منظومة القيم الأخلاقية. فلم يكن هذا المجتمع الذي دمج مع فكر الحداثة المادية، متصادماً أو مناقشاً لها عبر مواثيق وقوانين قيمية. ولعل حلاق هنا يُشير إلى كليات الفكرة التي سادت في العالم الغربي الحديث، من دون أن يستدعي هنا المعارضة اليسارية الشرسة، لبسط الرأسمالية على حياة الفرد والمجتمع.

إنقاذ اليهود عمل إنساني واجب، ولكن نزع فلسطين والتقاطع مع الشمولية الرأسمالية للحداثة عمل إجرامي بالمعايير نفسها التي حدّدها هيث، في أيديولوجية الربح (المتوحش)

يربط حلاق نقده هنا باستدعاء هيث في أطروحته (للدكتوراه)، لأستاذة الفلسفة اليهودية الألمانية ثم الأميركية حنة آرندت (1906-1975)، وهي باحثة فلسفة عملت على نقد الشمولية الأصولية، في خطها الفلسفي، وكانت مطاردة من النازية، وعملت لإنقاذ يهود أوروبا، ثم إنشاء وطن قومي لهم على حساب فلسطين المحتلة. أنظر هنا إلى مسألة مهمة، وهي تصنيف الشمولية، وتحديدها ضمن جدل المذاهب الفلسفية المعاصرة التي تُحيّد كلياً مفهوم المجتمع العالمي الإنساني، وفهم معادلة الفلسفة الأخلاقية من خلاله. حيث إن هذه السمة، وهذا الانحياز لجزئية في المنظور الفلسفي، المرتبط بالتاريخ الغربي، وحالات تأنيب الضمير المختارة، أو نماذج التحديد في إهمال الرؤية الأخلاقية الواسعة، هو محتكر داخل هذا الإطار، وعاجز عن أن يرى الفلسفة الأخلاقية ويمارسها، بمرجعياتٍ أعلى من واقع جغرافيته الجسدية، وانتماءاته التاريخية الاجتماعية التي تدور في فلك الحداثة المادية، والخطاب المعارض في أكاديميتها تحدّده أيضاً الحداثة، فاهتمام آرندت، يعتني بالتحدّي الذي تثيره هذه الأيديولوجيات (الشمولية). وهو يُشير إلى النازيين والماركسيين ومرجعيتهم الشمولية باعتبارها شكّلت، في حينها، انبثاقا لظاهرة جديدة جذرياً، تجبر كل الباحثين على القيام بمراجعة كاملة لأدوات التحليل العلمي المعهودة، علاوة على أنها انعطافة نكوصية، لم يشهدها تاريخ الفكر الأوروبي قبل ذلك. وترى حنة آرندت أن "الأصالة المرعبة للشمولية لا تنشأ عن أن فكرة جديدة جاءت إلى العالم، وإنما على شرخ جديد سحق كل مقولاتنا السياسية، وكل مقاييسنا الخاصة بالحكم الأخلاقي، فجبروت الحدث يتفوق هنا على المفهوم". (الذي لا يقتصر على الاستيلاء على السلطة فحسب).

ترى حنة آرندت أن "الأصالة المرعبة للشمولية لا تنشأ عن أن فكرة جديدة جاءت إلى العالم، وإنما على شرخ جديد سحق كل مقولاتنا السياسية

من جديد، نقف عند معضلة المرجعية، فإنقاذ اليهود عمل إنساني واجب، ولكن نزع فلسطين والتقاطع مع الشمولية الرأسمالية للحداثة عمل إجرامي بالمعايير نفسها التي حدّدها هيث، في أيديولوجية الربح (المتوحش) وهو هنا نموذج شمولي، دُعم عبر الثقافة الغربية الحديثة، والروح الإمبريالية فيه متعددة التموضع في المجتمع والمؤسسة الأكاديمية، وقد يشمل دعاة الفلسفة الأخلاقية اليوم في الأكاديمية نفسها.
لا يمكن أن نتجاوز هذا الجهد المميز والدقيق، في تتبع هيث إشكالية السوق، فهو يقودنا إلى سوق المعرفة، من حدد معاييرها؟ وأين هي الشمولية التي تسيطر عليها، وكيف تشكلت في عالم الأكاديمية الحديث، كيف تكافح جرائم السوق المالي، من دون رد اعتبار لما ذكرته حنا آرندت، لمراجعة معايير التحليل العلمي؟
وإذا كانت آرندت ذاتها قد لا تصل إلى معايير أخلاقية كلية، بسبب ما ذكره هيث نفسه، أن السوق لا يسمح بتداول المعلومات خارجه، والسوق هنا هو الأكاديمية الغربية، فكيف تُحرّر الفلسفة الأخلاقية، قبل استرداد الاستقلال المعرفي، وكيف نسترد الاستقلال، من دون الوصول إلى عالم معلومات جديد، أغلقت الحداثة المادية ورؤيتها الشمولية، كل الطرق للوصول إليها.