النجاح الإخباري - معمر عرابي-  بعد 47 عاماً على اغتياله، ما يزال الشعب يفتقد غسان كنفاني والحقبة الوطنية التي عبّر عنها، ولكن، إن كان لموته المبكر فائدة له، فهي أنه لم يعش طويلاً حتى لا يفتقد الكثير من الأشياء التي عايشها، ونجا من مرارة الحاضر. استشهد غسان بعد عامين من ظهوره في فيديو عام 1970 يطالب فيه بالإفراج عن الفلسطينيّين المأسورين في أوروبا.

لو عاش غسان إلى اليوم، ستكون هذه المكالب من المواقف التي يفتقدها بمرارة، فالدول الكبرى التي وصفها غسان بأنها "إمبريالية"، أصبحت وسيطاً "نزيهاً" للسلام، وراعية للاتفاقيات الاقتصادية والسياسية.

ولكن مرارة غسان -لو عاش إلى الآن- لم تكن لتقف عند عدم مقدرته على تسمية الأشياء بمسمياتها، ولكن وفي هذا الزمن، لو كان حيّاً، كان سيرى شخوص رواياته التي طالما حذّر منها، هم أبطال الحاضر/الواقع، أبو الخيزران في رواية "رجال في الشمس"، الانتهازي، رجل كل العصور، الذي خدم في الجيش البريطاني، ثم انضم للفدائيين، فأصيب بقنبلة أفقدته رجولته، فأصبح مفرغاً، وجعل كل طموحه في تكوين ثروة يعيش بها في هدوء وسكينة، ربما كان سيشهاده أو يقرأ عنه، عندما يُغادر سطور السبعينات الخيالية، ويعيش دراما الواقع، يشارك في "ورشة البحرين" وما سبقها، ويسافر ويعود عبر جسر "الكرامة" أمام أعين الجميع.

استبق كنفاني الزمن، عندما أشار إلى أبو الخيزان، على أنه "فكرة" وليس شخصية انتهازية. فهو السائق (القائد) الذي صوّر للرجال الثلاثة أن نقلهم داخل الصهريج، وسيلة آمنة، فيطرح غسان السؤال على القارىء، كيف تحول المناضل إلى سمسار ومهرّب، يعبث بحياة ثلاثة أشخاص كل منهم وراءه قصة معاناة، أبو قيس، وأسعد، ومروان، في مقابل 10 دنانير لكل منهم، أودت بحياتهم خنقاً في النهاية، على الحدود.

لم يكن من المصادفة، أن يحاكم كنفاني شخصية أبو الخيزران، انطلاقاً من عقدة نقص إصابته في نكبة 48، بعدما فقد رجولته بقنبلة، فأراد الرجل تعويض عجزه في معركة مع الاحتلال بتكوين ثروة من جيوب أبناء شعبه، أفضت به للسمرة على مصيرهم، مستغلاً توهانهم وراء لقمة العيش. فمحاولة تعويض الهزيمة بنصر شخصي/ذاتي، من خلال شعارات مُضللة تدعي بالتفكير بالمجموع، بينما مصالحهم ذاتية. كم من الذين قادوا الصهاريج بعد أبو الخيزران و"قبضوا... أصبحوا الآن أرصدة، وانتهوا كرجال!". كما وصفهم المظفر.

استناداً لنظرية حضور الكاتب في النص، يمكن قراءة شخصية أبو الخيزران كعرض مضاد لشخصية غسان ذاته، الذي عاش هم القضية أكثر مما عاش لنفسه، ليصل نكران الذات لديه إلى قمته، مثلما عبر عن ذلك في إحدى رسائله "حياتي جميعها كانت سلسلة من الرفض ولذلك استطعتُ أن أعيش، لقد رفضت المدرسة ورفضت الثروة ورفضت الخضُوع ورفضت القبول بالأشياء". فشخصية غسان الرافض أولاً للثروة، بالرغم من معاناته الشخصية والعائلية كلاجىء اقتلع من أرضه، وعاش معدماً في المخيمات، هي النقيض من شخصية أبو الخيزران الذي خرج من الهزيمة ليجمع المال. 

الرواية التي تحذَر من أبو الخيزران، في ذات الوقت تعرضه كضحية، ولكنها الضحية التي ضلّت البوصلة، والفلسطينيون الثلاثة (أسعد ومروان وأسعد) الذين قضوا في الخزان هم أيضاً ضحايا مثله، ووراء كل منهم قصة معاناة، تسبب فيها الاحتلال، وأراد كل واحد منهم بناء مستقبله الفردي، كحالة هروب وتهرب من الواقع، بدلاً من مواجهته وتخليص حقهم منه، فهل أراد غسان محاكمتهم هم أيضاً بسبب بحثهم عن حلول فردية.. التي هي في أحد أوجهها الضياع وراء لقمة العيش؟ هل أراد أن يقول لهم "خلقت أكتاف الرجال لحمل البنادق"؟

فما كان لغسان أن يُحاكم أبو الخيزران، من دون أن يمتلك أرضية المناضل، المؤمن بالكفاح المسلح، سواء في كتاباته التي تجاوزت الهم الفردي، أو في شهادات من عايشوه. إذ تُبيّن عصارة فكره وتجاربه أن هدفه الأول على الصعيد الشخصي، كان محاكمة جذور معاناته وأسبابها، بدلاً من منهج الإصلاح الرخو في معالجة النتائج. وعن جذور المعاناة وحلولها، كتب: "كلماتي تعويض تافه عن غياب السلاح". ولذلك لم يكن غسان خجولاً حتى من معاناته المادية أو الصحية، بل كان يعتبر تلك المعاناة كجزء من شخصيته التي كان يقدمها دون تردد، فبحسب ما روى شقيقه، الأديب عدنان كنفاني، عن آني هوفر زوجة غسان، لحظة تعرفها على غسان: "بعد أسبوعين من لقائنا الأول دعاني للعشاء في مقهى الغلاييني "في بيروت"، وقبل أن نغادر المكان قال عليك أن تجيبي عن سؤالي.. هل تتزوجيني؟. ثم أردف.. عليك أن تعرفي أنني فقير، لا مال عندي، ولا هوية، أعمل في السياسة، لا أمان لي، وأنا مصاب بالسكري.!".

وتُضيف آني: "كنا نصعد الدرج المفضي إلى فناء المقهى، قبل أن نصل الدرجة العليا الأخيرة قلت.. نعم.. سأتزوجك".