الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي - النجاح الإخباري - هذا هو الإسلام

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

 نحتفل بذكرى الإسراء والمعراج  وما زال المسرى في القدس أسيراً مكبلاً منذ أكثر من خمسين عاماً ، وما زالت من حوله أرض فلسطين محتلة سليبة منذ أكثر من سبعين عاماً ، تحتفل الأمة التي كانت تمثل العمق الحقيقي للقضية الفلسطينية وقد تراخت عزيمة التحرير لديها ، فما قيمة احتفالها بهذه الذكرى ؟ كيف تحتفل وفلسطين لم تعد قضيتها المركزية ، كيف تحتفل ولم تعد مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك من مقدساتها المهددة بالخطر أو محط أنظارها واهتمامها كما كانت سابقاً ، هذه العقيدة التي كنا نراهن عليها في صراعنا مع العدو المحتل الغاصب ، حتى لم يبق في الميدان إلا شعبنا الفلسطيني وحيداً منافحاً عن شرف الأمة وكرامتها وعقيدتها لا يبالي بالعدوان الهمجي الذي يتعرض له دون نصير أو ظهير ، ويقدم يومياً قوافل الشهداء الأبرار والجرحى الأبطال والأسرى الأماجد بينما أمته تتفرج على تضحياته الجسيمة ، بل يتماهى كثير من أبنائها مع العدو في تصفية قضيته بأي ثمن .

هذه أرضنا المباركة مسرح المعجزة الذكرى ، أما ظروفها ومناسبة حدوثها ؛ فقد عاد صلى الله عليه وسلم من الطائف بعد أن أساء أهلها الرد على دعوته ، فلجأ إلى الله تعالى طالباً منه النصرة والتأييد { اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى عدوٍ ملّكْتَه أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضبٌ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنْزِل بي غضبك أو يحل عليَّ سخـطك ، لك العُتْبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك } ، بات صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانىء أو في الحجر عند البيت في الحرم ؛ فجاء الروح يدعو سيد الحرم إلى عالم الملكوت ، فلن يكل الله رسوله وحبيبه إلى بعيد يتجهمه ولا إلى عدو يملك أمره ، إنه الآن في رعاية ربه وتأييده فلن يضيره بعد اليوم كيد البشر مهما أمعنوا في طغيانهم أو تمادوا في غيهم وجحودهم .

وقصة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم قال { أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربـطـته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم عـرج بي إلى السماء } رواه مسلم .

ابتدأت رحلة الإسراء العجيبة التي كانت بالروح والجسد في حال اليقظة من البيت الحرام قلب أم القرى والقبلة الدائمة للمسلمين ، وانتهت بالمسجد الأقصى المبارك قلب بيت المقدس والأرض التي بارك الله فيها وقبلة المسلمين الأولى ومعدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام ، واتخذت الرحلة مسار أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام في تردده بين مكة وفلسطين ؛ فقد أسكن زوجه هاجر وابنها إسماعيل في مكة وأسكن زوجه سارة وابنها إسحاق في فلسطين ، فربطت بذلك بين رسالات التوحيد الكبرى وأماكنها المقدسة ، وربطت المسجد الأقصى المبارك بالمسجد الحرام برباط رباني وثيق .

إن هذه الرحلة مظهر من مظاهر الاحتفاء والتكريم الإلهي لخاتم الأنبياء والمرسلين وآية باهرة ومعجزة دلت على قدرة الله جل وعلا ؛ قطع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسافات الشاسعة في جزء يسير من الليل راكباً البراق ؛ فلما انتهى به إلى باب المسجد ربط الدابة في جداره الغربي (حائط البراق) ودخله فصلى في قبلته ركعتين .

ثم أكرمه ربه برحلة المعراج نفحة روحية جعلها الله راحة لقلب نبيه وبشارة لنفسه وتثبيتاً لفؤاده ، رفعه تعالى فيها إلى حضرته السَّنِيّةِ وأرقاه فوق الكواكب العلوية فاستحق صلى الله عليه وسلم اسم العبودية ، فأشرف منزلة يتبوأها المؤمن أن يكون عبداً لله ، عُرج بالرسول إلى السماوات العلا يرقى من سماء إلى سماء يستقبله فيها إخوانه المرسلون ، ودخل البيت المعمور كعبة السماء فصلى فيه ، ووصل إلى حيث لم يصل أحد ، وهناك ربما رأى جبريل على صورته الحقيقية للمرة الثانية قال تعالى { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } النجم 13-15 ، فكان من أثمن ثمار هذه الرحلة المباركة ركن الإسلام وعموده ؛ خمس صلوات في اليوم والليلة رضي بها صلى الله عليه وسلم وخفف بها عن عباد الله ؛ لكنها عدلت خمسين في الأجر فالحسنة بعشر أمثالها .

وفي نهاية رحلة المعراج هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ومعه الأنبياء والرسل فصلى بهم إماماً في مسجدها ، قال صلى الله عليه وسلم { ... وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلى ... وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي ... وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلى ... فحانت الصلاة فأممتهم } رواه مسلم ، فكانت صلاته بهم تأكيداً أن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى البشر أخذت تمامها على يد النبي الخاتم بعد أن مهّد لها رسل الله الأولون ، قال تعالى { ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } الأحزاب 40 ، واستقر بذلك نسب المسجد الأقصى المبارك إلى الأمة التي أم رسولها سائر النبيين والمرسلين ، فأصبح جزءاً من عقيدة المسلمين لأنه محور هذه المعجزة ، وهذا إلغاء أبديّ وطيّ سرمديّ لصفحة بني إسرائيل من التفضيل والاصطفاء ؛ فقد ظلت النبوات وقفاً فيهم حيناً طويلاً من الدهر ؛ وظل بيت المقدس مَهبِط الوحي ومَشرِق أنواره على الأرض ، فلما خانوا العهود وأهدروا كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السماء وقتلوا الأنبياء وشوّهوا سيرتم بالأباطيل وتطاولوا على رب العزة سبحانه حلَّت بهم لعنة الله ؛ قال تعالى { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ... } النساء 155 ؛ فتقرر تحويل النبوة والرسالة عنهم إلى الأبد بعد ما غيروا وبدلوا فالله أعلم حيث يجعل رسالته .

عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة من ليلته ، وأصبح يحدث القوم بآيات ربه الكبرى التي رآها ، ولم يستمع لتخوّف أم هانىء من تكذيب قريش له أو اتخاذها قصة الإسراء والمعراج مادة للسخرية والتشكيك ؛ فثقته بربه وبالحق الذي أنزله عليه جعلته يصارح القوم برحلته ولا يبالي بردّة من ارتدّ ؛ فلن يتملّق القوم أو يحجم عن الجهر بالحق استرضاء لهم .

وأمام هذه المعجزة العظيمة لم تغير قريش مواقفها المكذبة للرسول صلى الله عليه وسلم كما لم تغير مواقفها أمام كل معجزة أخرى أتاهم بها ، لدرجة أن بعضهم صار يصفق ويصفر مستهزئاً ، إنها المكابرة والمعاندة التي تُعمي عن الحق وتصرف صاحبها عنه ولو كان أبلج مثل فلق الصبح . فكانت المعجزة الخالدة تأييداً ونصراً من الله عز وجل للدعوة الإسلامية ولصاحبها صلى الله عليه وسلم .

لقد كانت رحلة الإسراء معجزة نقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ، وكشفت له عن أماكن وعوالم بعيدة في لحظات خاطفة ، وهذا ليس بمستغرب على القدرة الإلهية التي لا يتعاظمها شيء ويتساوى أمامها كل شيء ، فالنبوة التي هي اتصال بالملأ الأعلى والتلقي عن الوحي ليست أقل غرابة من تلك الرحلة ؛ وهذا ما دعا الصديق أبا بكر رضي الله عنه لمقابلة استهجان قريش قصة الإسراء بالتصديق المطلق قائلاً : إني لأصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء

وفي هذه الرحلة الربانية لفتة عظيمة جداً لأبناء الأمة لو تفكروا بها ، فكان من الممكن أن تبدأ رحلة المعراج من البيت الحرام إلى السموات العلا ثم العودة إليه ، لكن الله عز وجل يريد الربط بين المسجدين ربطاً عقائدياً ومصيرياً لضمان عدم تفريط الأمة بأحدهما لأنه تفريط بهما ، ويريد أيضاً أن يقرر إسلامية أرض فلسطين والمسجد الأقصى المبارك ، وقد خلّد سبحانه هذا الربط وهذا التقرير بقرآن يتلى أبد الدهر بقوله تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 .