عبير بشير - النجاح الإخباري - احتفى جمهور جارة القمر التي غنت "يا سنين اللي رحتي ارجعي لي"، "وسنرجع يوما... إلى حينا ونغرق في دافئات المنى"، بعيدها الثالث والثمانين. ففي الواحد والعشرين من تشرين الثاني من العام ألف وتسعمائة وخمسة وثلاثين، ولدت أيقونة الأغنية اللبنانية، والجملة الأولى في صفحات الأريج "فيروز".
فيروز التي أيقظت الورد المجفف من بين صفحات الكتب، وقرع صوتها أجراس الرمان في سماء العاشقين، ونثرت الحنين على شرفات الشبابيك العتيقة، وكانت تذكرة الغيمة التي حلقت عليها قلوبنا، من غير مطارات أو مواعيد إقلاع.
راح صوت فيروز الملائكي يغني لمدن العرب: القدس، الشام، البتراء، وبعلبك، وشط إسكندرية ...يا شط الهوى، لم يكن لبنان يومها يحلم بمثل هذه الأيقونة يعلقها على شجرة الأرز. ولا أن تجتمع له ثلاثة من عباقرة جباله وشواطئه، عاصي ومنصور والسيدة الجميلة فيروز.
وشكل تعاون فيروز مع الرحابنة تاريخا طويلا من الإبداع والتجديد في الموسيقى العربية في ذلك الوقت، حين تم المزج بين الأنماط الغربية والشرقية واللون اللبناني في الشعر والموسيقى والغناء. وقد ساعد صوت فيروز وإنسيابيته على الانتقال إلى مناطق صوتية وغنائية جديدة، وفي الوقت الذي كان فيه النمط السائد هو الأغاني الطويلة، قدمت فيروز الأغاني القصيرة.
ومن بساتين أنطلياس في لبنان، قلب الرحابنة، معادلة صعبة. فقد كانت القاهرة، وعلى مدى عقود، عود الغناء، وحنجرته الذهبية، ومن اجل أن يحظى فنان بالشهرة، كان عليه أن يستقل الباخرة إلى الإسكندرية، ومنها إلى المحروسة، ملتحقا بأسمهان وفريد الأطرش. غير أن محمد عبد الوهاب هو الذي جاء إلى لبنان، ليلحن للسيدة فيروز "سهار بعد سهار"، ولحن أيضا "خايف أقول"، "وجارة الوادي" و"سكن الليل".  
"وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان..."، بهذه الكلمات الرقيقة افتتح الشاعر اللبناني طلال حيدر كلمات أغنية "وحدن بيبقوا"، التي غنتها السيدة فيروز والتي تخبئ بين أحرف كلماتها قصة ثلاثة مقاومين فلسطينيين قاموا بعملية فدائية. قصة هذه الأغنية نشرها نجل فيروز "زياد الرحباني"، الذي قام هو شخصيا بتلحينها. فقد اعتاد الشاعر طلال حيدر، أن يشرب فنجان قهوته على شرفة منزله المطلة على غابة، وهو يلاحظ يوميا دخول ثلاثة شبان إلى الغابة في الصباح وخروجهم منها مساء. وكان هو يتساءل: ماذا يفعل هؤلاء الشبان داخل الغابة من الصباح إلى المساء؟ إلى أن وصله خبر يقول: إن ثلاثة شبان فلسطينيين قاموا بعملية فدائية وسط الكيان الصهيوني، وعندما شاهد صور الشبان الثلاثة فوجئ أن الشبان الذين استشهدوا هم أنفسهم الشبان الذين اعتاد رؤيتهم في الصباح والمساء. فكتب قصيدته، وهي أجمل أغاني فيروز: "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان بيسكروا الغابي ... بيضلوا متل الشتي يدقوا على بوابي".
أم إنها ليست أجمل أغانيها، أم أن أجمل أغانيها "وطني ...شو بني عم أكبر وتكبر بقلبي ..وأيامي اللي جايي ..جايي فيها الشمس مخبايي..أنت القوي ..أنت الغني ..أنت الدني يا وطني". أم "غمضت عيوني خوفي للناس يشوفوك مخبى بعيوني" أو "أعطني الناي وغني ...فالغنا سر الوجود" أو "لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن، يا قدس، يا مدينة الصلاة.. أصلي" هذه الأغنية التي لم يسمعها أحد إلا وبكى، وتذكر آثار القدم الهمجية، وزمن الانتكاسات العربية.
نأت فيروز بصوتها عن العبث، وظل شامخا كمنحوتة بابلية، وباعثا على الأمل والتفاؤل كأنه "المطر على الشبابيك". لم تقل فيروز كلمة تشي بطائفتها أو حزبها. نأت بنفسها عن الغناء للطوائف التي قسمت لبنان وأوصلته إلى حرب أهلية وخرجت إلى المسرح تغني بولاء كبير لبلدها لا لطوائفه وأحزابه. فوقفت أمام الجميع تنادي بصوتها "بحبك يا لبنان"، وهتفت له: «بحبك يا لبنان، يا وطني بحبك». وكان اللبنانيون الهاربون من الحرب يصغون إلى الأغنية فيعودون.
وعندما دخل زوجها عاصي المستشفى، بعد إصابته بسكتة دماغية، جاءت فيروز إلى غرفته، وتركت كتابين مقدسين تحت وسادته: الإنجيل والقرآن.
ويتخيل الناقد إبراهيم العريس مشهدا – هو أقرب إلى الحكاية - في بداية الحرب اللبنانية، وتقول الحكاية، إن عائلة الرحباني اجتمعت، عندما أصبح لبنان مقسما في ذلك الحين بين كل شيء، وراحت تفكر في أفضل الطرق لعبور الحرب دون خسائر كبيرة. وفجأة خلال النقاش وجدوا الحل، نظريا على الأقل: زياد الرحباني، يذهب إلى الوطنيين والماركسيين، إلياس الرحباني يبقى على علاقة بالمسيحيين، عاصي الرحباني، حصته العرب. وعلى هذا النحو تقول الحكاية تم توزيع الجبهات. ولكن ماذا عن فيروز؟ كان الجواب: تبقى لكل لبنان ولكل العرب وللفلسطينيين.
كان صوت فيروز بلا جنس، أراد له عاصي الرحباني أن يكون صوتا ملائكيا، وقف صوت فيروز مع الإنشاد الملائكي، خارج التقسيم الأنثوي – الذكوري، وساهم ذلك في صنع الأسطورة الفيروزية. وهو يتلاءم مع ما يقوله منصور الرحباني عن فيروز: كانت بنتا خجولة، منطوية على نفسها، لكن ملامحها كانت تقول إنها سوف تكون شيئا ما، شيئا عظيما.
وعندما رحل عاصي، جاء نجلها زياد، الذي أنزل صوتها إلى مكانة الأنثى في داخلها. وبدأ يشتغل على صوتها، لينزع عنه صفة الملاك، ويدخله إلى عالم الصوت الأنثوي. أدخلها إلى موسيقى الجاز، وإلى عالم النوادي الليلية، ولم تعد قادرة على الرجوع مع زياد إلى براءة أهل الضيعة، وسطوح بيوت القرى وساحاتها الترابية، وضوء القمر والسرو والزنزلخت، فالضيعة، بعد كل الدماء التي فاضت في لبنان، لم تعد بريئة، ولم تعد تحتضن الملائكة والقرويين البسطاء. 
صارت فيروز مع زياد أنثى تغني وتضحك، وتسوق دلالا يليق بالأنثى التي بداخلها، فقد نجح، بحسب التحليل الفرويدي، بقتل الأب، وانتزاع الأم من سلطته الطاغية التي وضعتها في المكان الأثير لديه.
تماما كما نجح والده وعمه من قبل، في تحرير القصيدة والأغنية العربية للمرة الأولى من البحر الوافر، وصنعوا ثورة في الشعر، وعربوا "البالوما" و"الكومباريتسا" وطوروا الموشحات.
ودائما كما يقول شاعرنا محمود درويش، مع صوت فيروز يصبح القمر أكبر، وتصبح الصحراء أصغر.

عن الايام الفلسطينية