د.عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - تمر في الحادي والعشرين من الشهر الجاري الذكرى الخمسون لمعركة الكرامة التي شكلت انعطافة مهمة ومصيرية في التاريخ الفلسطيني المعاصر بعد ثلاثة أعوام من انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في الخامس والستين من القرن الماضي، وهي مناسبة تستحق التوقف من أجل قراءة الواقع الفلسطيني الراهن وما وصلت إليه الحالة الوطنية والخطوات التي قطعها المشروع الوطني في طريق إنجاز أهدافه، وتعلم بعض الدروس التي ضاعت رغم أهميتها. 
ستظل معركة الكرامة الحدث الكبير الذي دفع بالكثير من التطورات إلى ساحة السياسة الفلسطينية، وربما يصح القول إنه إلى جانب انطلاقة الثورة المعاصرة وما عنته من إعادة الاعتبار للدور والريادة الفلسطينية في عملية مناهضة مشروع الإحلال والسلب وطمس الهوية، يظل أهم ما حدث للفلسطينيين إيجاباً بعد نكبتهم الكبرى ونكستهم السوداء واللتين كانت نتيجتهما المشتركة ضياع كل فلسطين ووقوعها تحت نير السلب والتهويد والصهينة. 
وإلى جانب بطولات كثيرة لا يمكن نسيانها قام بها الشعب الفلسطيني في الذود عن أرضه وفي الدفاع عن مقدساته وحماية نفسه، كما العمليات الكبرى التي قامت بها فصائل المقاومة التي تشكلت بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة أو تلك التي قامت بها مجموعات الفدائيين المختلفة التي تكونت عبر خيارات فردية محلية أو جماعية برعاية عربية في مرات كثيرة، إلى جانب كل ذلك ستظل الكرامة هي المعركة الأولى التي يخوضها الفلسطينيون بعد النكبة جملة وتفصيلاً وينتصرون فيها. 
تمثلت قيمة الكرامة الأساسية في الحقيقة التي تركتها في نفوس الشعب الفلسطيني، فالفلسطيني أيضاً يصلح للانتصارات وليس فقط للهزائم كما أرادت النكبة بالكثير من الألم. 
والفلسطيني الذي تلقى الضربة تلو الضربة والهزيمة تلو الأخرى، ها هو ببندقيته وسلاحه المتواضع يستطيع صد الغازي ويعيده مهزوماً. 
لم يكن الفلسطيني بيضة يمكن فقسها بيد جنرالات العدو كما اعتقدوا بل إرادة لا تقهر وعزيمة لا تلين. 
من هنا فإن الكرامة كان لها من اسمها الكثير فهي رفعت معنويات الشعب الذي ذاق مرارة التشرد واللجوء واكتوى بلسعات النكسة. 
فالفلسطيني المشرد اللاجئ بات مقاتلاً فدائياً يبحث عن حريته وعن استعادة أرضه المسلوبة. 
من المؤكد أنه سيكون من الصعب فهم التاريخ الفلسطيني المعاصر دون التوقف أمام ما جرى في الكرامة، لأنها قادت إلى التحول الأبرز في بنية النظام السياسي الفلسطيني كما نعرفه. 
ففصائل المقاومة وبفضل ما تم على أرض المعركة أصبحت القوة المسيطرة على مقاليد المؤسسة التي ستكون وطن الفلسطينيين المعنوي. 
المنظمة التي أرادت لها الدول العربية أن تكون الإسفنجة التي تمتص تطلعات الفلسطينيين وتعبيراتهم الوطنية ثم تعصرها الإرادة العربية، باتت بفضل نجاح فصائل العمل المسلح في هزيمة العدو – لأول مرة في تاريخ العرب - مؤسسة فلسطينية خالصة يصاغ داخلها الحلم الفلسطيني وتقاد منه السفينة الفلسطينية. وإضافة لكل ذلك فقد أعملت الكرامة الكثير من الحماس في النفس الفلسطينية والعربية. 
هذا ساهم في سرعة التفاف الناس حول الثورة والتحاقهم بفصائلها. لقد بات ثمة أمل يمكن التمسك به، وغاية يمكن أن تتحق، ولم تعد هزيمة العدو أمرا مستحيلاً، وعليه فقد شهد تعداد المقاتلين في الفصائل ارتفاعاً كبيراً وزادت وتيرة العمليات العسكرية على الحدود وارتفع الصوت الفلسطيني مجلجلاً في العالم معبراً عن التطلعات والأحلام التي داستها النكبة وهرستها النكسة. 
لقد بات للفلسطينيين صوت مسموع، وكان يجب على العالم أن يسمع هذا الصوت وأن يترك له المساحة الكافية حتى يقول ما يريد. 
كما شهدت الثورة التحاق مقاتلين عرب وأجانب آمنوا بالحق الفلسطيني ونذروا أرواحهم من أجل الدفاع عنه واستعادته.
الآن وبعد خمسين عاماً على هذا الحدث الكبير أين وصلنا؟ مياه كثيرة جرت تحت الجسر، الوضع في جوانب منه أفضل وفي جوانب أخرى أسوأ. 
وفي المحصلة فإن المشروع الوطني لم يحقق الغاية الأهم فيه، وسيكون من باب التجني القول إن عدم تحقيقها فشل، لأن التواجد الفلسطيني على التراب الوطني والحفاظ على الشعب من الاندثار والذوبان في أتون المجتمعات المجاورة والتحول إلى مجرد ذكريات جميلة مؤلمة ربما عن شعب عاش ومضى في سرادب التاريخ، كل ذلك بحد ذاته إنجاز كبير. 
إنه الهدف الذي نذر القادة الأوائل أرواحهم له. أن يظل الصوت الفلسطيني مسموعاً، إنه ذات الصوت الذي دوى خلال انفجار عيلبون الذي أعلن معه انطلاقة الثورة. 
الصوت الفلسطيني الذي ظل مسموعاً لكن هذه المرة لم يكن أنيناً من تحت ركام البيت المهدم، ولا عويلاً على أعتاب الحقل المسلوب، ولا نحيباً في دروب التيه، بل صوت يعلو مطالباً بالحق، هذا الصوت هو الذي جعلنا نبقى حتى اليوم. إنه الصوت.
وعليه فإن الحفاظ على الوجود الفلسطيني وحمايته وحماية تمثيله من الضياع والسلب الإقليمي والوصاية الخارجية سيظل الهدف الأكثر إلحاحاً إلى حين حدوث تحولات في القدرة الذاتية تسمح بأن يتم الانطلاق نحو استعادة الحلم الأكبر. هذا يتطلب قدراً كبيراً من الإصرار والتماسك وامتلاك الأدوات المناسبة التي تجعل السير على الطريق عملية ممكنة.
وربما أن الغائب الأكبر في هذه الحالة وبعد خمسين عاماً هو الوحدة الوطنية، الوحدة التي تمزقت على أعتاب انقلاب حزيران الأسود وما نتج عنه من انقسام مهول في بنى وهياكل النظام السياسي. 
وستظل جهود السنوات الماضية في محاولة استعادة الوحدة الوطنية جروحاً غائرة تعكس هذا الفشل الكبير في التعاطي الفلسطيني الداخلي مع أزمة داخلية. 
السلاح الفلسطيني بات موجهاً ليس إلى العدو وبالتالي إحداث معجزة الكرامة بل إلى صدر الأخ وبالتالي إلحاق العار بالروح. 
وما لم يتم تحقيق المعجزة البسيطة بطي ملف الانقسام فإن الفلسطينيين يجازفون بخسارة الحلم الذي نجحوا في الحفاظ عليه طوال سنوات تيههم السبعين.