د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - عندما يكون الوطن وقضاياه على المحك، فلا مجال للمزاودات وتسجيل المواقف، حتى لا يصح فينا حديثه صلى الله عليه وسلم في القوم الذين أستهموا على سفينة حين قالوا على لسانه: "لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً" فكان قوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".

نقرأ هنا وهناك تحليلات عن ردات الفعل الشعبية، والإقليمية، والدولية على إعلان الرئيس الأمريكي ترامب بشأن القدس، وأبدأ بالتعقيب على الإقليمية والدولية منها لأقول أنه لم يكن من المتوقع هذا الكم من التحركات الجماهيرية في دول الجوار، فالمنطقة العربية برمتها أنهكتها قضاياها الخاصة التي أُشغلت بها عبر سنوات خلت، حتى تهيأ للإدارة الأمريكية أن الظروف اليوم مواتية لإعلانها، وأن ردود الفعل على خطوتها لن تعدو عن كونها زوبعة في فنجان، وإلا لما أقدمت على فعلتها التي فعلت. ودول المنطقة الأخرى والعالم في نهاية المطاف أيضاً لها حساباتها السياسية ومصالحها القومية التي تربطها بقطب العالم الأوحد كما يُشاع، وهي تُناور ضمن هامشٍ لا يُلحق الضرر بتلك الحسابات والمصالح، وقد سمعنا من التهديدات والتحذيرات الرسمية قُبيل الإعلان المشؤوم إذا ما تم، وقد تم، "فلم نر من الجمل غير إذنه".

من المفارقة بمكان، أن صحيفة القدس في صبيحة يوم 12/12/2017، أي قبل يوم واحد من تاريخ إنعقاد قمة التعاون الاسلامي الطارئة في اسطنبول التي تداعى لها الدول الأعضاء للرد على القرار الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال، أعادت في صفحتها الرابعة عشرة في العمود المُخصص لما نُشر على متن صفحتها الأولى قبل عشرين عاماً، نشر خبرها الرئيسي بتاريخ 12/12/1997 تحت عنوان "القمة الاسلامية تؤكد التصميم على استعادة القدس والحقوق الوطنية"!!!، فماذا كان؟.

وهل يحق لنا أن نقول ما أشبه اليوم بالأمس؟، ولكن، أو ليس الأمس بأحسن حالاً من اليوم؟، وبرغم ذلك فنحن لكل من قدم وساهم بفعلٍ أو كلمة أو موقف من الشاكرين. تزداد قناعتي يوماً بعد يوم بالمثل القائل: "ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك"، فبقدر أهمية السعي لتجيير تعاطف ودعم الأقربين والأبعدين لقضيتنا، ولحقوقنا المشروعة بالعيش بسلامٍ وكرامة فوق أرضنا كسائر شعوب الأرض، إلا أن رسم الحقائق على الأرض لا يتأتّى إلا بسواعد أبناء شعبنا ضمن استراتيجة نضال وطني مُجمع عليها، تتوحد فيها جميع الجهود لتحقيق أهدافنا الوطنية.

وإنه من هذه الزاوية ينبغي تقييم ردة الفعل الشعبية الفلسطينية على الإعلان الأمريكي بشأن القدس. يُقلل كُتابٌ ومحللون من شأن هذه الهبة عدةً وعدداً، مقارنة بسابقاتها، خاصة الأخيرة في شهر تموز/ يوليو الماضي، ويذهب بعضهم إلى الاستنتاج بأن مختلف فصائل النضال الفلسطيني فشلت في حشد الشارع لقلب الطاولة على رأس المحتل وإشعال المنطقة تحت أقدامه، ويُساق لهذا الرأي ما يدعمه من أسباب ومسببات قد يُتفق أو يُختلف معها. أما أنا فأرى تغيراً ملحوظاً وإستفادةً من تجارب الماضي في إدارة ردات الفعل الجماهيرية من قبل أصحاب القرار، الذين كانوا يسعون سابقاً لحشد زخماً كبيراً مع بدء أي شرارة لهبة شعبية، سرعان ما تخبو حدة معظمها دون تحقق النتائج المرجوة منها.

أما اليوم فنرى حكمةً أكثر في إدارة الهبة الجماهيرية الحالية بما يُحافظ على مُكتسب سياسي هام حققته القيادة الفلسطينية، تمثل في وقوف كافة دول العالم الحُر إلى جانب حقوقنا المشروعة بقدس الأقداس، وتحديها للابتزازات والتهديدات والغطرسة الأمريكية والإسرائيلية، لتقول أن سيادة الدول وحرية شعوبها ليست برسم البيع أو المقايضة. قد يقول البعض أن إسرائيل أيضاً ليست معنية بالتصعيد حتى تُشجع دولاً أخرى لحذو خطى الولايات المتحدة الأمريكية في نقل سفارات بلادها من تل أبيب إلى القدس، ولا أختلف مع هذا الرأي فالأمر لا يخلو من حكومات وأنظمة لا تتمتع بتأييد أبناء شعبها وتسعى لدعمٍ خارجي لتثبيت وجودها، ولكن الإستثمار في المرحلة الحالية بتنوع الفعاليات الشعبية المناهضة للقرار الأمريكي والمحافظة على ديمومتها في إطار إحتكاكات يومية بجنود المحتل تأخذ طابع المقاومة الشعبية، ستُبقي قضيتنا عموماً حاضرة في ضمير العالم الحر، وتُحافظ على التفهم والرفض الدوليين لأي تغير أحادي الجانب في وضع القدس، بما يحقق نتائج معاكسةً لما تُخطط له وتُريده إسرائيل.

قد نتفق أو نختلف كفلسطينيين في رؤانا وتحليلاتنا لمجريات الأحداث وسُبل التعامل معها، ولكن لا ينبغي أن يصل هذا الخلاف إلى حد الإختلاف، وما يمكن أن يُناقش في اجتماعات الرأي والرأي الآخر، لا ينبغي أن يطفو إلى العامة فيحدث الفرقة ويشق الصف، وقولنا الفصل "القدس تجمعنا".