عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - أثارت الأحداث الأخيرة في لبنان المخاوف من أن يكون تشكيل الحكومة اللبنانية، بعد عناء ومكابدة مضنية مجرد محطة توقف مؤقتة، قبل التطاحن القادم، ما يعيد إلى الأذهان فصولا جديدة للحرب الأهلية «البائدة»، وربما أكثر عنفا وترويعا أيضاً.
فجأة تحول القاضي طارق البيطار إلى نجم النجوم في لبنان، وانشدّت إليه الأنظار، إقليميا ودولياً، وذلك بالنظر إلى حساسية القرارات التي يمكن أن يتخذها، والتأثير الحاسم والمصيري لهذه القرارات على مسار تطور الأحداث في هذا البلد العاثر والمتعثر.
كل الأطراف المتصارعة والمتحالفة والمؤتلفة تدرك عميق الإدراك أن مسؤولية تفجير مرفأ بيروت هي مسؤولية خطيرة إلى أبعد حدود الخطر ومستوياته كما يمكن اعتبار هذه المسؤولية - إذا ما ثبت تورط أحد الأطراف بها - بمثابة مقدمة لانقلابات سياسية كبيرة في لبنان.
هول الخسائر التي نتجت عن الانفجار وفلكيتها، والطابع الزلزالي المدمر لهذا الانفجار عامل كبير ومؤثر للغاية في قراءة تبعات القرار القضائي، لكن هذا التأثير سيكون أكبر بكثير، ربما لا يقاس إذا نظرنا إلى هذه التبعات من زاوية ما أدى إليه، وما سيؤدي إليه من وضع الحرب الأهلية الجديدة على قائمة الوضع السياسي في لبنان، بل وعلى جدول الأعمال المباشر في أوضاع متدهورة على كل الصعد والمستويات.
الغريب والعجيب أن يتم تسييس قرارات القاضي المرتقبة بصورة مسبقة، وأن يتم الاصطفاف بهذه الطريقة القبلية حتى قبل أن يستكمل القاضي كامل تحقيقاته، ويستوفي أوراقه، وأن يصنف الرجل إما تحت بند الشك والريبة، أو تحت بند النزاهة والحيادية، وهو ما يلقي بظلاله القاتمة على أي تحقيق، طالما أن أحداً لا يريد انتظار نتائج التحقيق، أو أن كل الأطراف تبحث فقط عن قرارات قضائية مسبقة تضمن لها مصالحها ونفوذها سلفاً.
وهذه المسألة بحد ذاتها تعني من بين الكثير الكثير مما تعنيه أن «التعايش» بين الأطراف المتصارعة لم يعد سهلاً، إن لم نقل إنه أصبح في عداد الصعوبة البالغة.
لكن هذا التعايش مهما بدا صعباً بُعيد أحداث «الطيونة»، ومهما كان المشهد قاتما، سواء بالتظاهرة الاستفزازية المسلحة بالأسلحة المتوسطة والثقيلة بمعايير حرب الشوارع طبعاً، أو بالهتافات الطائفية البغيضة، وبالمقابل القتل الذي بادرت إليه القوات اللبنانية وحلفاؤها - على ما يبدو جلياً - إلا أن الأمور لن تذهب، ولن تصل إلى حدود اندلاع حرب أهلية مباشرة وجديدة، وذلك بالنظر إلى المعطيات الآتية:
أولا: بما أن الأطراف المتصارعة لا يمكن لها أن تأخذ قرارا بإشعال شرارة الحرب الأهلية دون الرجوع إلى مرجعياتها، ودون أن تكون هذه المرجعيات قد حسمت بهذا الاتجاه، فإن مواقف هذه المرجعيات هي فقط من يحسب حسابها، ولا شأن «للوكلاء» في قرارات على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة والحساسية.
وبهذا المعنى وليس بغيره أبداً، فإن الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة وربما من خلف إدارة بايدن أو إلى جانبها إسرائيل، لا يمكنه (الغرب) ولا يمكنها (الولايات المتحدة) المغامرة بحرب كهذه من شأنها أن تدمر المدمر، ومن المؤكد أنها ستطيح بالدولة اللبنانية، وستؤدي حتما إلى شق الجيش وقوى الأمن الداخلي أيضاً، إضافة إلى احتمالات امتدادها لتتطور إلى حرب إقليمية شاملة .. ! لهذا ولهذا بالذات فإن الأطراف الإقليمية والدولية هي التي ستقرر بشأن الوضع اللبناني وليس الأطراف المحلية.
ثانيا: تأسيساً على كل ذلك فإن الخارطة الدولية والإقليمية ما زالت في حالة [انتظار ومراهنة وتعويل] على التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران.
قبل البت النهائي والحسم الأكيد بشأن هذا الاتفاق لن تندلع الشرارة لحرب أهلية جديدة، لكن وبالمقابل فإن وصول الملف النووي الإيراني إلى طريق مسدود لن يكون مجرد عامل من عوامل التحفيز والتشجيع على حرب كهذه، وإنما ستكون هذه الحرب إحدى أدوات المفاوضات «الجديدة» على قواعد واسعة جديدة، بصرف النظر عما وصل إليه لبنان من دمار وخراب، وبصرف النظر أيضا عن مصير الدولة والجيش والمجتمع اللبناني بكامله.
ثالثاً: هناك في قلب المعادلة وعلى هوامشها أيضاً من يرغب بتصعيد الصراعات إلى سقوفها العليا، مثل إسرائيل وبعض بلدان الخليج، والأجنحة الأكثر تطرفا في القيادة الإيرانية، وهو ما لا يبقي منسوب الصراع والتناقض دائما عند حدود (دائرة التحكم والسيطرة) وقد تشهد الساحة اللبنانية بسبب مثل هذا الواقع بعض الجولات التصعيدية الدرامية، لكن الخروج التام والشامل عن دائرة السيطرة ليس مرجحا لكامل مرحلة الانتظار والمراهنة والتعويل.
رابعاً: الكارثة الحقيقية أن الشعب اللبناني الشقيق على أبواب أن يفقد دولته، وربما جيشه الواحد، وهو بصدد مغامرة كبيرة بفقدان القضاء كآخر معقل للدولة اللبنانية، بعد أن تم شل وتعطيل الدولة على مدى سنوات وسنوات، وبعد أن فقد ثورته وحراكه الشعبي، والذي كان حراكاً وطنيا وديمقراطيا أصيلاً، وكان حراكاً متجاوزا للعبة الطائفية أو كل مرتكزاتها الاجتماعية والثقافية، ناهيكم طبعاً وأولاً عن المرتكز السياسي لهذه الطائفية.
ومن هذه الزاوية فإن فقدان وتشتيت الحراك هو بمثابة نسف لمرتكزات تماسك النسيج السياسي الوطني، والاجتماعي على حد سواء.
خامساً: لقد ثبت بالملموس، وبما لا يرقى إليه الشك أن الإسلام السياسي، ومنذ أن ركب موجة «الربيع العربي» كما كان عليه الأمر قبل ذلك، وبما هو عليه الآن وبصورة مستمرة إنما وبقدر ما يتحول من الدائرة التوعوية إلى «الجهادية» ومن «الجهادية» إلى هدف الظفر بالسلطة السياسية، إنما يفعل ذلك بوعي وإدراك عميقين «لأهمية» بل و«ضرورة» أن يتم ذلك بعقلية التجاوز والإقصاء لكل محتوى ديمقراطي ووطني للتحولات السياسية والاجتماعية، بل احتواء وتجاوز وزعزعة مؤسسات الدولة وكيانيتها، وتهشيم النسيج الوطني والاجتماعي، وبما يربك الهوية الوطنية، ويعرضها لأخطر التهديدات.
هذا هو ما شهدناه في فلسطين حين أقدمت حركة «حماس» على الانقلاب في قطاع غزة، واستولت على القطاع بقوة السلاح، وأجهضت الحالة الوطنية والديمقراطية، وشقت المجتمع وفق منظورات تتجاوز كل المعايير الجماعية للشعب الفلسطيني، وبدأت مسار البديل السياسي، أو الموازي السياسي على قاعدة شل النظام السياسي، واحتجاز بناء مؤسسات السلطة وتعريض كامل الأهداف والحقوق الوطنية لخطر التبديد. وهذا ما شهدناه في كل المنطقة العربية.
هذا ما حاوله الإسلام السياسي في مصر قبل أن ينتفض الشعب المصري، وقبل أن ينتصر الجيش المصري لهبة الشعب، ويضع حداً حاسماً لأخطار ذلك المسار للإسلام السياسي على وحدة البلاد وعلى سلامة الدولة الوطنية وعلى تماسك المجتمع.
لم يختلف الأمر في تونس، وكاد الإسلام السياسي فيها يودي بكل الأهداف الوطنية والديمقراطية، وكان يتوثب للانقضاض على مكتسبات الشعب التونسي لكامل مرحلة ما بعد الاستقلال.
لم يختلف الأمر كثيرا في اليمن ولا في العراق ولا سورية ولا في أي بلد حتى مثل ليبيا والمغرب.
عقلية السطو على مقدرات الدولة وتعطيل التطور الوطني والديمقراطي للمجتمعات أو تحويل كل مقدرات الشعب إلى غنائم للاستئثار بها لصالح مشاريع خاصة بأحزاب ومؤسسات الإسلام السياسي.
كل التباينات بين بعض البلدان والساحات والمجتمعات العربية، من زاوية ذهنية وسياسات وممارسات الإسلام السياسي، وتجليات هذه السياسات هي تباينات في الدرجة والظروف وليست في الجوهر والمحتوى أو النوع.