نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - منذ المرحلة الأولى من ولاية ترامب بدأت تتكشف معالم مرحلة جديدة في علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل على مختلف المستويات، وفي مختلف المجالات.
هناك من اعتقد أن الدعم المطلق لسياسات إسرائيل من قبل الإدارة الأميركية آنذاك، وتبني ترامب لكامل الرزمة الإسرائيلية حول الصراع في الشرق الأوسط، وحول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تحديدا إنما يمثل «فاتحة» تنذر بتغيرات وتحولات استراتيجية لصالح إسرائيل، وتؤسس (وليس أنها تنذر فقط) لمرحلة ستؤدي من بين ما ستؤدي إليه إلى «تذخير» المشروع الصهيوني بأسلحة فتاكة لتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وإلى «تطويع» المنطقة العربية بالكامل وإخضاعها لمنطق الهيمنة الإسرائيلية.
واستدل الكثيرون في المنطقة والعالم على عمليات وآليات التطبيع كشاهد ودليل على بزوغ عصر جديد سموه العصر الإسرائيلي.
بالمقابل كان هناك من اعتقد أن المناخات التي وفرتها الإدارة الأميركية آنذاك، وهي مناخات كانت تصلح أكثر ما تصلح لاستعراضات ومشهديات سياسية باتت تعرف بمناخات الفرجة السياسية.
إن هذه المناخات ستحدث في لاحق المراحل والأيام اختلالات استراتيجية خطيرة على مستقبل العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وإن هذه الاختلالات ستبدأ من المجتمع الأميركي قبل المؤسسات الأميركية.
اعتقد كل من ترامب واليمين الأميركي من جهة، ونتنياهو واليمين الإسرائيلي من جهة أخرى، بأن كل واحد منهما قد وجد ضالته عند الطرف الآخر.
ترامب فهم بعد مرور أقل من عامين على حكمه في البيت الأبيض، أن وضعه صعب للغاية، وأن الحزب الديمقراطي يسير قدما للإطاحة به، تماما كما فهم نتنياهو أن وضعه بات مهددا في ظل مؤشرات عدة من داخل حزبه وفي إطار دائرة الأعوان وخصوصا بعد تهم الفساد.
هنا باع ترامب كل شيء واشترى اللوبي الإسرائيلي العنصري، لأنه ملاذه الأخير، وهنا باع نتنياهو الرأي العام في الولايات المتحدة لأن تحالفه مع اليمين الأميركي منقذه ومخلصه الوحيد، وهنا تم الإعداد والتخطيط، ثم صياغة وتدشين، ولاحقا وضع آليات ملموسة لما عرف بصفقة القرن.
هنا استبدل نتنياهو «كنز» الرأي العام في الولايات المتحدة بقلادة تتويج استعراضية، وهنا وضع ترامب ورمى بكل ثقله لصالح اليمين الإسرائيلي أملاً في دعم «أكثرية» صهيونية لدى اليهود في الولايات المتحدة، ومراهنة على بقاء تماسك المسيحية الصهيونية في إسناده تحت كل الظروف.
لكن الحقائق التي قفز عنها نتنياهو بخفة ونزق مغامر، هي أن الاصطفاف التام والانخراط الأرعن في معركة اليمين الأميركي سيكون له ثمن كبير عليه وعلى اليمين الإسرائيلي وعلى إسرائيل في نهاية المطاف، لأن قطاعات واسعة من الرأي العام الأميركي بدأت بالتململ، وبدأت بطرح أسئلة، لم تطرح قبل إلا في بعض الأوساط الضيقة، ثم تعززت لدى هذه القطاعات مشاعر الشك والريبة في السلوك الإسرائيلي، وترافقت مع حملات منظمة من يسار الحزب الديمقراطي، وفئات ليبرالية حتى وصلت - خصوصا في ضوء الحرب الأخيرة على قطاع غزة - إلى خسارات إسرائيلية ضخمة، وإلى تحولات استراتيجية في قناعات الرأي العام في الولايات المتحدة توجت مؤخرا في تبدلات مذهلة في هذا المجال رغم نسبيتها. هذه التغيرات يمكن وصفها بأنها مذهلة، وبأنها تحولات استراتيجية لأسباب جوهرية تتلخص بالمعطيات الآتية:
أولا: كانت الساحة الأميركية تكاد تكون مرتعا إسرائيليا، وكانت الانتقادات محصورة في حقل الأكاديميا الأميركية، وكانت قدرة اللوبي الإسرائيلي المتطرف على «قمع» هذا النوع من الانتقادات كبيرة وناجعة.
في أوروبا الغربية، وفي الكثير من بلدان العالم خسرت إسرائيل معركة الرأي العام إلى درجة أننا ومنذ زمن بتنا نقول إن معركة الرأي العالمي قد خسرتها إسرائيل بلا رجعة، وإن هذه المعركة قد باتت خلفنا.
أما أن تبدأ إسرائيل بخسارة هذه المعركة، أو لا يعود بمقدورها وقف التدهور باتجاه هذه الخسارة فهذا متغير مذهل بالفعل وتبدل استراتيجي بكل المقاييس كما كتبنا أكثر من مرة.
ثانيا: لم تعد المسألة مسألة انتقادات.
الواقع أن التغير اليوم هو تغير نوعي جديد، أفقياً وعموديا على حد سواء.
إذ إن التغير امتد أفقيا من الجامعات والأوساط الأكاديمية ليصل إلى الكنيسة، أو مجمعات الكنائس وإلى الكنيسة الإفنجيلية نفسها - وهذه تمثل طامة ما بعدها طامة على إسرائيل - ثم إلى أوساط تجارية ومجمعات اقتصادية.
يكفي بهذا الصدد الإشارة إلى التغيرات التي طرأت على مواقف مجمع الكنائس الأخيرة وكيف أنها باتت ترى في السياسات الإسرائيلية عبئاً أخلاقيا مرهقا، وحمولة زائدة على كاهلها، ويكفي أن الكنيسة الإفنجيلية نفسها، وتيار المسيحية الصهيونية بات يتعرض لتبدلات خطيرة للغاية على إسرائيل (انظر بهذا الصدد مقالة الزميلة د. سنية الحسيني / الأيام ٢٩ / ٧ / ٢٠٢١ / معاداة السامية: الادعاء الذي فقد صداه)، وانظر كذلك مقال مايكل آريا حول التغير في الرأي العام الأميركي/ ترجمة غير رسمية للدكتورة غانية ملحيس.
ثالثا: لم تعد المسألة مجرد انتقادات وإنما - وهذا يحدث لأول مرة على الإطلاق - انتقل الأمر إلى دائرة الحكم والتصنيف السياسي، وليس مجرد التوصيف فقط.
فقد بدأ الحديث الصريح، وبدأت عملية مجاهرة غير مسبوقة بأن إسرائيل - وهنا الأمر لا يعني، ولا يمكن أن يعني سوى دولة إسرائيل - هي دولة فصل عنصري.
والمسألة لم تعد - أي مسألة تحديد دولة إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري أو أنها تقوم وتمارس هذا الفصل العنصري - لم تعد موقفا لأوساط معينة في إطار الرأي العام الأميركي، وإنما - وهذا هو الأهم والأعمق من حيث الدلالة - وإنما أصبح هذا الموقف مطروحا وعلانية وعلى رؤوس الأشهاد من قبل منظمات شبه حكومية كما جرى في تقارير منظمة (هيومن رايتس ووتش)، ومن قبل تجمعات كنسية لها أهميتها ودورها ومكانتها لدى أوساط واسعة من المجتمع الأميركي، ولها تأثيرات كبيرة على الرأي العام في الولايات المتحدة.
رابعاً: فإن هذا المتغير الهائل لن يظل محصورا في إطار الرأي العام، وسيمتد إلى المؤسسة الرسمية الأميركية آجلا أم عاجلاً، ولن يتوقف الأمر عند حلقة الإدارة الأميركية وسيمتد حتماً إلى إعفاء الكونغرس، ولعل الوثيقة الأخيرة التي وقعتها ألف شخصية أميركية هي مجرد دليل على أهمية ذلك كله.
أما الذي سيسرع من وتيرة وصول التبدل - ولو تدريجيا - إلى المؤسسات الرسمية في الولايات المتحدة هو أن هذه المؤسسات، ومهما كانت «محافظة» بشأن العلاقة الخاصة والاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلا أنها تتأثر بدرجة فعل ودور الرأي العام، كما أنها تراعي إلى حد كبير التوازنات بين اللوبيات الضاغطة في المجتمع الأميركي، إلى درجة أن بعض الخبراء يرون السياسات الأميركية على مستوى الإدارة وعلى مستوى الكونغرس بأنها ليست سوى محصلة التوازن بين هذه اللوبيات.
الحالة المرضية في الساحة الفلسطينية مع الأسف تبدو وكأنها تعيش في عالم آخر، ومشغولة ومنشغلة بالانقسامات والتشظيات، والافتراقات، والتنازع على سلطات وصلاحيات ليس لديها أي سلطة وليس لديها أي صلاحيات حقيقية.
لو عرف أهل القرار لدينا حجم المتغير الذي يجري في الولايات المتحدة باتجاه مصالحنا الوطنية، ولو أدركوا أن هذه المتغيرات قد بدأت تجرد إسرائيل من آخر أسلحتها، وبأنها ستهزم في آخر قلاعها لما ترددوا لحظة واحدة في توحيد الصفوف ورصها، وفي الإعداد لمواجهات قادمة مع سياسة الفصل العنصري، وهي سياسة أصبح بالإمكان هزيمتها، والقضاء عليها بالتعاون الوثيق مع البشرية الخيرة في هذا العالم.
فمتى نستفيق، ومتى نغادر ميدان اللعب في صغائر الأمور وهوامش الاهتمامات؟
أنكون يا ترى في مرحلة الشلل الناتج عن عدم انهيار القديم، وعن عدم بزوغ الجديد؟ أم ماذا؟