جمال زحالقة - النجاح الإخباري - صعّدت إسرائيل هجومها على القيادة الإيرانية، بعد انتخاب رئيسي رئيسا للجمهورية الإسلامية، وهي تعمل على استغلال صعود شخص محافظ سدة الحكم، لإقناع الولايات المتحدة ودول أوروبا والرأي العام العالمي، بأن الخطر النووي الإيراني قد ازداد، وأن العودة إلى الاتفاق السابق ستكون محفوفة بالمخاطر أكثر من ذي قبل. لكن يبدو حتى الآن أن “لاعب الشطرنج” الإيراني يعرف سلفا ما هي الخواطر الإسرائيلية، ويعمل على إفشالها، عبر مواصلة مفاوضات فيينا، بلا تغيير في المسار أو المواقف، وبلا علاقة بالتغيير في طهران.

في الأشهر الأخيرة تغير اللاعبون في الحرب الخفية في الشرق الأوسط، حيث في الولايات المتحدة ولى ترامب الجمهوري الأرعن، وجاء بايدن الديمقراطي البراغماتي، وفي إسرائيل انزاح نتنياهو المتطرف الأهوج ليأتي بعده ثلاثي لا يقل تطرفا لكنه أكثر انضباطا: بينيت ولبيد وغانتس، وانتهت في إيران ولاية روحاني الإصلاحي، وجاء رئيسي المحافظ. أما في العالم العربي فقد بقيت القيادات المعهودة نفسها، واستمرت السياسات السابقة، وكأن ترامب ونتنياهو وروحاني لم يتبدلوا، وكأن قواعد اللعبة لم تتغير.

بعكس ما ردده بنيامين نتنياهو رئيس المعارضة في الكنيست الإسرائيلي، في خطاب النزول عن العرش، حول “الاحتفالات في طهران” ترحيبا بالحكومة الإسرائيلية الجديدة (لأنها ضعيفة ـ كما قال)، جاء رد الناطق بلسان الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، فاترا، حيث قلل من أهمية التغيير في إسرائيل قائلا: “السياسة الإسرائيلية لن تتغير مع الحكومة الجديدة”، ولكنه عبر عن شماتة إيرانية متوقعة بمصير نتنياهو وترامب وقال: “رحل أعداء إيران، وهي باقية وقوية”. مقابل الانضباط الإيراني الخالي من الأوهام في التعامل مع التغيير في القيادة السياسية في إسرائيل، جاء الرد الإسرائيلي الرسمي، وغير الرسمي، ضمن محاولة لاستغلال انتخاب رئيس محافظ للجمهورية الإسلامية، لتشويه سمعة إيران دوليا بادعاء، انها أصبحت أكثر تطرفا، واستثماره في تسويق الموقف الإسرائيلي، عبر هستيريا ترويع مصطنعة، تقمصها رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد نفتالي بينيت، حيث وصف رئيسي بأنه “جزار طهران” محذرا الدول العظمى من أن “انتخاب رئيسي هو إنذار أخير للقوى العالمية حتى تستيقظ قبل العودة إلى الاتفاقية النووية، وتفهم الطرف الذي تتعامل معه”. وأضاف: “يجب ألا يُسمح أبدا لنظام مكون من الجلادين المتوحشين بامتلاك أسلحة دمار شامل، موقف إسرائيل لن يتغير في هذا الشأن”.

 

الحقيقة أن إسرائيل تكذب، هي لا تخشى كما تدعي، بل تريد وحتى تسعى، أن تكون إيران أكثر تشددا، أملا في أن يؤدي ذلك إلى فشل مفاوضات فيينا وإلى قطع طريق العودة إلى الاتفاق النووي، الذي تعارضه بشدة الحكومة الإسرائيلية الجديدة أيضا. يبدو من مجمل ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن شعبة المخابرات العسكرية والموساد ومجلس الأمن القومي في إسرائيل، لا تعرف بعد كيف سيؤثر انتخاب إبراهيم رئيسي في مفاوضات إعادة الاتفاق النووي، ولم تسعفها التقديرات الأمريكية، التي لم ترس بعد على رأي متفق عليه بخصوص التطورات في إيران. لذا تتحضر كل من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى عدة سيناريوهات:

1ـ إيران تقوم باستثمار التناقضات في النظام، بحيث تكون معنية باستعجال التوصل إلى اتفاق، قبل تولي إبراهيم رئيسي المحافظ مهامه الرسمية، حتى يتسنى له أن يدعي أنه غير مسؤول عن توقيع الاتفاق، وأن حسن روحاني الإصلاحي هو الذي جاء به، وعليه “مرغما” أن يلتزم به لأنه التزام للدولة الإيرانية.

2 ـ سيطرة المحافظين على مفاتيح الحكم بعد انتخاب رئيسي يخلق حالة من الانسجام في النظام، وتوجيه للطاقات لحل مشاكل الداخل الإيراني الساخنة، والحاجة لتبريد المؤثرات الخارجية، وعدم إجراء تغيير في التعامل مع علاقات النظام الدولية، النظام المحافظ المنسجم سيكون أكثر قدرة على اتخاذ القرارات بالإجماع، ولمصلحة أجندته، سيكون معنياً بتأجيل التوصل إلى اتفاق، إلى ما بعد تنصيب الرئيس الجديد، كي يحظى رئيسي بمصداقية وشرعية دولية، في ظل الحملة المنظمة ضده، خاصة وأنه مرشح قوي لوراثة المرشد العام علي خامنئي البالغ من العمر 82 عاما.

3 ـ انتخاب إبراهيم رئيسي المحافظ هو دليل على أن إيران ستتخذ مواقف اكثر تشددا، تؤدي إلى تفجير مفاوضات فيينا، وإلى إلغاء إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي. هذا هو حلم إسرائيل، ولكن لا مؤشرات على أن هذه إمكانية واقعية، خاصة أن إيران لن تكون معنية في تحقيق أحلام من يعاديها.

4 ـ استغلال انتهاء مفعول اتفاق كاميرات المراقبة في المرافق النووية الإيرانية اليوم الخميس (إذا لم يتجدد) والعمل على إبطاء سير مفاوضات فيينا، بذريعة أن إيران في مرحلة انتقالية في الحكم، في سبيل تكثيف تخصيب اليورانيوم، والاقتراب أكثر من القدرة على صناعة قنبلة نووية. وهذا ما لمح له وزير الخارجية الأمريكية، انتوني بلينكن، حين صرح في الكونغرس بأنه إذا لم يتم الاتفاق مع إيران بسرعة، فهي ستكون قادرة على صنع قنبلة نووية خلال أسابيع. وفق هذا السيناريو فإن إيران ستكون أقرب إلى القنبلة النووية، وأكثر قدرة على فرض شروطها التفاوضية، لأن الكل سيخشى من أنها ستقوم فعلا بإنتاج القنبلة إذا فشلت المفاوضات. في كل الأحوال إسرائيل ستعمل على استغلال أي ابطاء في المفاوضات لمحاولة التأثير في الإدارة الأمريكية، للبحث عن حلول بديلة عن العودة للاتفاق النووي.

5 ـ إيران ستستمر في المفاوضات وتتمسك بمواقفها فيها، بلا أي تأثير لانتخاب رئيس محافظ، لأن القرار في هذا الملف هو للمرشد العام، ولمجلس الأمن القومي، وليس لرئيس الجمهورية. وفق هذا السيناريو، وهو الأرجح في رأيي، فإن إيران لن تستعجل ولن تبطئ، لن تتهاون ولن تتشدد، وستبقى متمسكة بمطالبها وبعدم استعدادها لتقديم المزيد من التنازلات. هي فعلا بحاجة ماسة للتوصل إلى اتفاق يرفع العقوبات عنها، ويحرر اقتصادها من أزماته النابعة من هذه العقوبات، لكنها تعلم جيدا أن محاوريها في فيينا بحاجة إلى اتفاق سريع، ويعتبرون فشل المفاوضات كارثة من النوع الثقيل.

تدل هذه السيناريوهات على أن إيران تملك خيارات عديدة، بما فيه خيار “اقتصاد المقاومة”، المعد للتعامل مع استمرار العقوبات، ومع تصعيد المواجهة في عدة جبهات. لكن يبدو، وعلى الرغم من كل العوائق، أن الاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني سيتم خلال هذا العام، وسيلقي ظله على المنطقة بأسرها. وقد بدأ مسار المفاوضات حول هذا الاتفاق يؤثر بقوة في القوى الفاعلة في الشرق الأوسط.

إسرائيل من جهتها تعارض بشدة العودة إلى الاتفاق النووي، وفي هذا الشأن لا فرق بين حكومة نتنياهو السابقة، وحكومة بينيت لبيد غانتس اللاحقة، سوى في نقطة واحدة، وهي كيفية إدارة الخلاف مع الولايات المتحدة. فقد دأب نتنياهو على مواجهة علنية مع أوباما في حينه، ومع بايدن هذا العام. أقطاب الحكومة الجديدة يصرحون بأنهم معنيون بإدارة حوار سري مع الإدارة الأمريكية، ولا يريدون أزمة في العلاقة مع “الحليف الاستراتيجي” الأهم. هم يعملون على التأثير في الموقف الأمريكي من جهة، ويسعون إلى الحصول على “تعويضات” ضخمة، إذا تم الاتفاق في فيينا. الإدارة الأمريكية الديمقراطية مرتاحة لإزاحة نتنياهو، الذي يسبب لها الإزعاج في الملف الإيراني، وهي تواصل العمل على تليين الموقف الإسرائيلي عبر زيادة الدعم العسكري، وعبر رفع مستوى التنسيق والتعاون الأمني بين حلفائها في المنطقة. فقد أقدم الأمريكيون على رفع مكانة إسرائيل الاستراتيجية في المنطقة، حيث قاموا مؤخرا بنقلها من مسؤولية “يوكوم” ـ القيادة العسكرية الأمريكية في إوروبا، إلى “سينتكوم” ـ المنطقة العسكرية الأمريكية الوسطى، التي تشمل دول الشرق الأوسط.

وتعتبر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الانتقال إلى القيادة الوسطى خطوة استراتيجية، تتيح لها التعاون مع الدول المنضوية تحت لوائها كافة، حتى تلك التي لا تربطها بها علاقات دبلوماسية مثل السعودية، وقد كثفت القيادة الأمريكية الوسطى التنسيق واللقاءات بين جيوش الولايات المتحدة وإسرائيل والأردن ومصر ودول خليجية وقبرص واليونان، ولكن إسرائيل تريد تعاونا أوسع يشمل السودان والمغرب وغيرهما. وفي السياق نفسه أجرى الطيران الإماراتي والإسرائيلي مناورات مشتركة في جزيرة كريت اليونانية، واعتبرها ضباط إسرائيليون فاتحة لمرحلة جدية من العمل المشترك ضد التهديد الإيراني.

من الصعب إدراك رداءة حال النظام العربي، الذي لم يبق لنفسه خيارا سوى الخيار الأمريكي الإسرائيلي بأسوأ صوره، إنه منزلق خطير من يدخله يفقد السيطرة على حركته وعلى إرادته، ويسحل فوقه إلى حيث تريد إسرائيل. الثمن باهظ جداً: في سبيل مواجهة الخطر الإيراني، النظام العربي يُدفع إلى تفتيت وتدمير الذات العربية. لقد بدأت عملية في غاية الخطورة فمن يعتبر إسرائيل حليفا يعتبر فلسطين عدوا، والكلام المعسول لا يغطي على الأفعال الفظيعة، التحالف مع إسرائيل هو من الكبائر ومن الفظائع. هناك خيارات أمام العرب أفضل لهم بكثير من الخيار الأمريكي الإسرائيلي. لماذا لا تخرج مبادرة عربية لتفاهم ثلاثي: عربي إيراني تركي، يضمن مصالح كل الأطراف، ويفتح الباب لحل المشاكل القائمة بالتنسيق والاتفاق بين هذه الأطراف الثلاثة؟ العرب أحوج من غيرهم لمثل هذا التفاهم، وتنازلاتهم لأجله أقل بكثير من ثمن التحالف المخزي مع إسرائيل، والكل سيربح منه: ترك وعرب وفرس، وكلهم، ومهما بلغ الخلاف والاختلاف، جزء أصيل من المنطقة وليسوا غزاة أو مستعمرين، مثل الإسرائيليين والأمريكيين.

 

عن القدس العربي