نابلس - النجاح الإخباري - لبرهة من الزمن كان يبدو لبعض غلاة المتطرفين الإسرائيليين اليهود وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن الأمر فيما يتعلق بالحقوق على أرض فلسطين التاريخية قد استتب بالنسبة لهم، وأنهم استطاعوا شطب حق الفلسطينيين على أرض وطنهم وخاصة حقهم في تقرير المصير وإقامة دولة خاصة بهم والتخلص من نير الاحتلال الصهيوني العنصري، وشطب روايتهم التاريخية. بل إنهم مع وصول  دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة وموقفه العدائي جداً من الشعب الفلسطيني والمتحيز جداً لأقصى اليمين الصهيوني المسيحاني المتطرف، وخاصة موقفه من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، ورسم خطة لإنهاء الصراع على أساس شطب الحقوق الفلسطينية، شعروا أنهم قد ضمنوا القدس كاملة لهم كعاصمة لإسرائيل كما يدعون طوال الوقت. ولكن الحقيقة الكامنة في القدس جاءت لتصفعهم وهذه لم تكن المرة الأولى، وظهروا أغبياء بشكل غير مسبوق لأنهم لم يتعلموا من عبر الماضي ودروسه.
في أيلول من العام 2000 قام رئيس المعارضة الإسرائيلية آنذاك ارئيل شارون بزيارة استفزازية للحرم القدسي وعلى أثرها اندلعت الانتفاضة الثانية التي انتهت بسقوط آلاف الفلسطينيين والإسرائيليين في مواجهة دموية وعنيفة للغاية. وفي تموز من العام 2017 قامت الحكومة الإسرائيلية بتركيب بوابات الكترونية في مداخل الحرم القدسي بعد أن منعت دخول المصلين لأداء الصلاة، وانتهت إلى إزالة البوابات بعد موجة من الاحتجاجات الشديدة وخاصة الاعتصامات المقدسية المتواصلة والتي تخللها عدد من العمليات في أكثر من مكان اضطرت السلطات الإسرائيلية على القيام بإزالة هذه البوابات بعد حوالي عشرة أيام على تركيبها. وفي شهر رمضان الماضي بدأت سلطات الاحتلال بسلسلة من الأعمال الاستفزازية شملت وضع حواجز في باحة باب العامود وزيارات المتطرفين العنصريين اليهود للبلدة القديمة وباحات الاقصى ومظاهراتهم التي يرددون فيها شعارات عنصرية مثل «الموت للعرب». وزاد من توتير الأوضاع القرار بترحيل عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح لاستبدالها بعائلات يهودية بحجة ملكية اليهود السابقة للأرض. وكأن القيادات الإسرائيلية لم تستوعب ما الذي يمكن لمسألة القدس أن تحدثه على الصعيد الفلسطيني وربما على مستوى العالمين العربي والإسلامي.
الصفعة التي تلقتها إسرائيل هذه المرة لا تقتصر على الهبة الشعبية المتواصلة في القدس بدءاً من باب العامود والشيخ جراح وأحياء القدس المختلفة، بل أنها وصلت إلى العمق الإسرائيلي. وهذه المرة أعادتنا إلى النكبة وإلى مأساة الشعب الفلسطيني منذ عام 1948. وقد توحد الشعب الفلسطيني كله في مواجهة العدوان على القدس والعدوان على حقوق الشعب الفلسطيني في كل مكان وخصوصاً في فلسطين التاريخية. والصدمة الكبرى للمستوى السياسي الإسرائيلي والجمهور بصفة عامة كانت في انكشاف فشل محاولات الأسرلة التي قامت على تذويب الهوية القومية للشعب الفلسطيني والتي بلغت ذروتها في قانون القومية الذي حاول حصد نتائج لا مقومات حقيقية تسندها على الأرض. فهذا القانون العنصري ينص على أن حق تقرير المصير على أرض فلسطين التاريخية هو حصري لليهود دون غيرهم، أي أن الفلسطينيين سواء الذين يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين أو حتى خلف الخط الأخضر لا حقوق قومية لهم، بل لا حقوق انسانية لهم مساوية لحقوق اليهود. وعليهم جميعاً أن يقبلوا الاحتلال من جهة والتمييز العنصري وسلب الحقوق من جهة أخرى.
الآن كل الأوراق باتت على الطاولة وعلى رأسها الحقوق القومية للشعب الفلسطيني التي باتت الآن أولوية ومقدمة للحقوق الانسانية وخاصة المساواة مع اليهود في كل شيء. وقد أضحى واضحاً بما لا يبقي مجالاً للشك بأنه بدون حل الصراع بصورة عادلة لا مجال لتوفير أي حقوق حقيقية لأبناء الشعب الفلسطيني في أي مكان على وجه الكرة الأرضية بما في ذلك داخل إسرائيل. ويمكن القول إنه من الآن فصاعداً سيتركز الجدل داخل إسرائيل حول فشل المؤسسة الحاكمة والمآلات التي وصل إليها الشرخ والصراع حتى داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش حالة من التمييز العنصري ليس فقط تجاه الفلسطينيين بل وكذلك تجاه عرقيات يهودية، واستراتيجيات الخروج من هذا المأزق.
هناك فرصة الآن لتوحيد جهود كل فئات وابناء الشعب الفلسطيني لإنجاز حل للصراع على أساس الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني، وخاصة الحق في تقرير المصير على أرض وطنه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين بصورة عادلة. كمقدمة لتحقيق المساواة وانصاف الفلسطينيين في كل مكان وخاصة في وطنهم التاريخي. فما فعلته القدس كان كبيراً ومهماً وله تبعات استراتيجية لا يمكن تجاهلها. فنضال مواطنيها والشعب الفلسطيني بأسره أثبت أكذوبة القدس الموحدة تحت السيادة الإسرائيلية، كما أثبت وحدة حال الفلسطينيين في مواجهة الظلم والعدوان ومصادرة الحقوق. وعلى القيادات والنخب الفلسطينية في كل مكان ابتداع استراتيجية كفاحية فلسطينية توحد الشعب الفلسطيني وتخلق التكامل بين مختلف أجزائه  وتعيد له حقوقه المسلوبة. وهذا الاختبار في الواقع هو الذي يؤكد أو ينفي جدارة هذه القيادات والنخب.