كتاب الطريق إلى القرآن - النجاح الإخباري - تساؤلات كثيرة حول تدبر القرآن في رمضان، والحقيقة أنَّ القرآن فيه حقائق وإشارات كثيرة تحتاج إلى التدبر، ثمَّة مفاتيح كثيرة لفهم القرآن.

قال الإمام ابن تيمية: “فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدرًا، وصفة”وعليه  فالانتفاع بالقرآن: تدبر ما عرضه القرآن من حقائق العلم بالله، فما في القرآن من تصورات عن الملأ الأعلى هي من أعظم ما يزكي النفوس، وكثيرًا من المنتسبين للفكر المعاصر يظن الأهم في القرآن هو التشريعات العملية، وأما باب العلم الإلهي فهو قضية ثانوية، ولا يعرف أن هذا هو المقصود الأجَلّ، والأعظم.

ومن وجوه الانتفاع بالقرآن -أيضًا-: تدبر أخبار الأنبياء التي ساقها القرآن، وكررها في مواضع متعددة، وبدهي أن هذه الأخبار عن الأنبياء ليست قصصًا للتسلية، بل هي نماذج يريد القرآن أن يوصل من خلالها رسائل تضمينية، فيتدبر قارئ القرآن ماذا أراد الله بهذه الأخبار؟ مثل التفطُّن لعبودية الأنبياء، وطريقتهم في التعامل مع الله، كما قال الإمام ابن تيمية: “والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء، وتوباتهم، واستغفارهم”[2].

وتلاحظ أن الله يثنّي، ويعيد قصص القرآن في مواطن متفرقة، وليس هذا تكرارًا محضًا، بل في كل موضع يريد الله تعالى أن يوصل رسالةً ما، وأحيانًا أخرى يكون في كل موضع إشارة لجزء من الأحداث لا يذكره الموضع الآخر، كما قال الإمام ابن تيمية مثلًا: “وقد ذكر الله قصة قوم لوط في مواضع من القران في سورة هود، والحجر، والعنكبوت، وفي كل موضع يذكر نوعًا مما جرى”.

­والمهم هاهنا أن تدبر أخبار الأنبياء، وأخبار الطغاة، وأخبار الصالحين، في القرآن، ومحاولة تفهم، وتحليل الرسالة الضمنية فيها؛ من أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن.

ومن أعظم وجوه الانتفاع بالقرآن -أيضًا-: أن يضع الإنسان أمامه على طاولة التدبر كل الخطابات الفكرية المعاصرة عن النهضة، والحضارة، والتقدم، والرقي، والإصلاح، والاستنارة… إلخ.. ويضع كل القضايا التي يرون أنها هي معيار التقدم، والرقي..

ثم يتدبر قارئ القرآن أعمال الإيمان التي عرضها القرآن كمعيار للتقدم، والرقي..

تأمل فقط بالله عليك كيف ذكر الله الانقياد، والتوكل، واليقين، والإخلاص، والاستغفار، والتسبيح، والصبر، والصدق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر… إلخ، في عشرات المواضع..

بل بعض هذه الأعمال بعينها ذكرت في سبعين موضعًا..

ثم قارن حضور هذه القضايا في الخطابات الفكرية لتجده حضورًا شاحبًا خجولًا..

أي إفلاس فكري أن تكون الأعمال التي يحبها الله، ويثنيّ بها، ويجعلها مقياس الرقي، والتقدم، والتنوير، هي في ذيل القائمة لدى الخطابات الفكرية المعاصرة المخالفة لأهل السنة.

ومن أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن -أيضًا-: أن يستحضر متدبر القرآن أن جمهور قرارات القرآن، وأحكامه على الأعيان، والأشياء إنما هي أمثال، ومعنى كونها أمثالًا أي يعتبر بها ما كان من جنسها، بمعنى: أن القرآن يقدم في الأصل نماذج لا خصوصيات أعيان، وقد أشار القرآن لذلك كثيرًا، كقوله تعالى في سورة الحشر: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] وقوله في سورة الروم وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58].

فماذا يريد الله في مطاوي هذه الأمثلة القرآنية؟ هذا أفق واسع للتدبر..

لا شك أن تنبيهات القرآن على مركزية تدبر القرآن، في صحة المنهج، والطريق أنها دافع عظيم للتدبر.. لكن ثمة أمرًا آخر على الوجه المقابل لهذه القضية.. معنى منذ أن يتأمله الإنسان يرتفع لديه منسوب القلق قطعًا.. وهو أن من أعرض عن تدبر القرآن فإن الله قدر عليه أصلًا ذلك الانصراف؛ لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا الإنسان لا خير فيه، ولو كان في هذا المعرض خير لوفقه الله للتدبر، والانتفاع بالقرآن، وقد شرح القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23].

كلما رأى الإنسان نفسه معرضًا عن تدبر القرآن، أو معرضًا عن بعض معاني القرآن، ثم تذكر قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ يجف ريقه من الهلع لا محالة..

على أية حال.. هذا القرآن ينبوع يتنافس الناس في الارتشاف منه بقدر منازلهم، كما قال الإمام ابن تيمية: “والقرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له”[6].