حسن نافعة - النجاح الإخباري - يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) أزمة ثلاثية الأبعاد تتمثل حالياً في: 1- تنامي قوة روسيا الاتحادية على نحو بات يهدد جدياً بعودة شبح حرب باردة كانت سادت خلال حقبة النظام الدولي الثنائي القطبية. 2- تراجع وزن الولايات المتحدة النسبي في النظام الدولي إلى الحد الذي دفع بإدارة ترامب إلى مطالبة حلفائها بتحمل تكلفة حمايتهم التي ظلت الولايات المتحدة تتحملها نيابة عنهم لسنوات طويلة. 3- فشل كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ضلعي حلف الناتو الرئيسيين، في التعامل مع تركيا، أحد أهم أعضائه، إلى الدرجة التي باتت تهدد بانسحابها الفعلي من هذا الحلف إن عاجلاً أو آجلاً. كان حلف شمال الأطلسي قد ولد في سياق رؤية استراتيجية أميركية استهدفت حصار الاتحاد السوفياتي داخل حدوده والحيلولة دون تمدد نفوذه خارج نطاق أوروبا الشرقية التي كان تمكن من إحكام قبضته عليها أثناء الحرب العالمية الثانية، ترجمتها «سياسة الاحتواء» التي تطلب وضعها موضع التنفيذ تحركاً على مستويين:

الأول: دفاعي- أمني، تم إسناده إلى»حلف شمال الأطلسي» الذي تأسس في 4 نيسان (أبريل) عام 1949، لتمكين الدول الأعضاء من مواجهة أي تهديدات عسكرية محتملة.

والثاني: اقتصادي- تنموي، استهدف تمكين أوروبا الغربية من إعادة بناء اقتصادياتها التي خربتها الحرب لتقوية مناعتها في مواجهة عدوى الأيديولوجية الماركسية، تكفل به «مشروع مارشال» الذي تعهدت الولايات المتحدة بموجبه تقديم مساعدات ضخمة لأوروبا الغربية. لا شك في أن حلف شمال الأطلسي يعد، في تقديري على الأقل، أحد الظواهر اللافتة في تاريخ العلاقات الدولية، فرغم فشله في القيام بمهمته الرئيسية، وهي احتواء النفوذ السوفياتي ومحاصرته، ومواجهته أزمات داخلية كثيرة، كان أبرزها انسحاب فرنسا ديغول من هياكله العسكرية، إلا أنه تمكن ليس فقط من المحافظة على بقائه حتى يومنا هذا ولكن من التوسع أفقياً ورأسياً أيضاً، فعلى صعيد التوسع الأفقي، ازداد عدد الدول الأعضاء في الحلف من 12 دولة عند التأسيس إلى 29 دولة حالياً. وعلى صعيد التوسع الراسي، ظل محافظاً طوال فترة الحرب الباردة على وضعه الدفاعي وحرص على عدم التورط في أي عمليات عسكرية أو القيام خارج حدود الدول الأعضاء.

لكن ما أن انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي، حتى بدأ يشارك بدور في معظم الحروب والأزمات الدولية، ابتداء من «حرب تحرير الكويت» (1991/1990) وانتهاء بالأزمة الليبية التي أطاحت نظام القذافي (2011)، مروراً بحروب وأزمات البوسنة والهرسك (1993/1992)، كوسوفو (1999)، أفغانستان (2001)، بل قام بنشر سفن حربية في خليج عدن لمكافحة القرصنة (2009)... إلخ. ولم تتردد الولايات المتحدة في استخدام حلف الناتو كذراع عسكري في أزمات تعذر عليها معالجتها في مجلس الأمن أو في إطار نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة.

ويبدو أن هذا العصر الذهبي لحلف الناتو ولى إلى غير رجعة، فتنامي الوزن النسبي لقوة ومكانة روسيا الاتحادية في النظام الدولي، بالتوازي مع تراجع الوزن النسبي للولايات المتحدة، وضع حداً لهذا التوسع الأفقي والرأسي، وربما يؤدي تنامي أزمة تركيا مع الولايات المتحدة بسبب تطورات الأزمة السورية إلى التعجيل بانهياره. ولأن البعد التركي في أزمة حلف شمال الأطلسي يبدو حاسماً، فإن إلقاء الضوء عليه يحتاج إلى تحليل أكثر تفصيلاً. كانت تركيا التحقت بحلف شمال الأطلسي عام 1952، في أول موجة من موجات توسعه المتلاحقة وفي خطوة بدت حاسمة على طريق محاصرة واحتواء النفوذ السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يفسر كثرة المشروعات التي طرحت لإحاطة الاتحاد السوفياتي بسلسلة أحلاف عسكرية ترتبط في شكل مباشر أو غير مباشر بحلف الناتو، كالسنتو وحلف بغداد وغيرها. غير أن الرياح راحت تهب بما لا تشتهي السفن الأميركية، ففي اللحظة التي كانت فيها تركيا تستعد لقيادة منطقة الشرق الأوسط بالوكالة لحساب الولايات المتحدة الأميركية بالطبع، كانت المنطقة تبدو حبلى بمشروع مختلف لنظام إقليمي عربي سرعان ما حملت مصر الناصرية رايته عقب اندلاع «ثورة الضباط الأحرار» في تموز (يوليو) 1952. وجاءت مشاركة مصر عام 1955 في مؤتمر باندونغ ثم صمودها في وجه العدوان الثلاثي بمثابة جرس إنذار مبكر وكاشف ثغرات واسعةً في بنية «سياسة الاحتواء» سمحت للاتحاد السوفياتي باختراق المنطقة، بخاصة عقب إبرام مصر لصفقة الأسلحة التشيكية. ولأن الولايات المتحدة كانت رفضت عام 1954 طلباً سوفياتياً بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي للمحافظة على السلام في أوروبا، ورد الاتحاد السوفياتي بتأسيس «حلف وارسو» عام 1955، في خطوة بدت كاشفة عن «توازن رعب نووي» بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان من الطبيعي أن تتكرس حالة حرب باردة توقع كثيرون أن تكون طويلة المدى وأن تصبح منطقة الشرق الأوسط وقودها. فبعد حقبة شهدت تغلغل النفوذ السوفياتي عميقاً في هذه المنطقة، راح هذا النفوذ يتراجع بسرعة عقب تمكن إسرائيل عام 1967 من إلحاق هزيمة كبرى بالحركة القومية العربية انتقلت الولايات المتحدة على إثرها من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم.

ومع ذلك ففي اللحظة التي كانت مصر تتخلى فيها رسمياً عن قيادة النظام العربي، عقب إبرامها معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل، كانت إيران تستعد لدخول الحلبة وتطرح نفسها كمشروع بديل ليس فقط للمشروع القومي العربي وإنما أيضاً للمشروع الأطلسي الذي تقوده تركيا بالوكالة. غير أن هذا المشروع ما لبث أن تعثّر تحت وطأة حرب عراقية إيرانية استمرت ما يقرب من ثماني سنوات، وحين توقفت كان الاتحاد السوفياتي نفسه أصبح على وشك الانهيار وبدأ النظام الدولي يتهيأ لحقبة جديدة من الهيمنة الأميركية المنفردة. وقتها خُيل للبعض أن العالم وصل إلى «نهاية التاريخ»، لكن سرعان ما تبين أن هذه المقولة مجرد نكتة سخيفة.

ومن المثير للتأمل أن تفرز الساحة التركية، والتي ظنّ البعض أنها أصبحت أطلسية بامتياز، جملة من التفاعلات التي ساهمت في دحض هذه المقولة، فما هي إلا سنوات قليلة حتى كانت تركيا الأردوغانية تطرح نفسها كقيادة لمشروع بديل ومختلف عن المشروع الإيراني. وبالتدريج بدأت الساحة الشرق أوسطية تشكل مسرحاً تتنافس فوقه ثلاثة مشروعات مختلفة: إيراني وتركي وإسرائيلي. ولأن حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة بدا منحازاً بالكامل إلى جانب المشروع الإسرائيلي، كان من الطبيعي أن تتيح تفاعلات الأزمة السورية فرصة نادرة أمام روسيا العائدة بقوة إلى الساحة الشرق أوسطية لإضعافه بالتعاون مع كل من إيران وتركيا برغم تباين مصالح الأطراف الثلاثة، فعندما اندلعت شرارة ثورات «الربيع العربي» راودت أردوغان أحلام عثمانية لإحياء الخلافة الإسلامية، بدا واضحاً أنها تلقى تشجيعاً أطلسياً على أمل استلهام النموذج التركي كبديل من النظم التي أسقطتها الثورات العربية. ويبدو أن التدخل التركي في انتفاضة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد في آذار (مارس) 2011 جاء في سياق هذا التوجه العثماني الجديد، غير أن الرياح لم تأت بما تشتهي سفن أردوغان. فبعد سقوط حكم «الإخوان» في مصر عام 2013، وتدخل قوى دولية وإقليمية في الأزمة السورية التي راحت تتحول تدريجاً إلى حرب أهلية تدار بالوكالة، وإقدام روسيا على التدخل العسكري إلى جانب نظام بشار، تراجعت أحلام أردوغان وبدأت السياسة التركية تواجه مأزقاً على الجبهات كافة، خصوصاً أن التدخل العسكري الروسي كاد يؤدي بعد إسقاط طائرة عسكرية روسية إلى وقوع صدام مسلح واسع النطاق بين البلدين.

ثلاثة عوامل أدت إلى قلب معطيات الأزمة السورية رأساً على عقب ودفعت تركيا إلى تفكيك وإعادة تركيب وصـــياغة تحالفاتها الدولية والإقليمية: الأول وقوع انقلاب عسكري في تركيا في 15 تموز (يوليو) 2016 اتهم فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة بتدبيره. ولأن تركيا طالبت الولايات المتحدة بتسليمه، كان من الطبيعي أن يؤدي الرفض إلى تزايد الشكوك بين البلدين، خصوصاً أن أردوغان أقدم على حركة تطهير واسعة النطاق كانت محل انتقادات لاذعة داخل الولايات المتحدة. الثاني: اعتماد الولايات المتحدة المتزايد في تثبيت أقدامها في سورية على الفصائل الكردية المسلحة التي يعتبرها أردوغان إرهابية وامتداداً عضوياً لحزب العمال الكردستاني الذي يهدد وحدة الأراضي التركية، وتزويدها هذه الفصائل بالأسلحة الثقيلة. الثالث: تمكن نظام بشار الأسد من تثبيت دعائمه عقب انتصارات واسعة النطاق حققها نتيجة الدعم العسكري الذي حصل عليه من جانب روسيا وإيران و «حزب الله».

فإذا أضفنا إلى هذه العوامل أن الاتحاد الأوروبي ما زال يماطل في قبول تركيا عضواً فيه، برغم تقدمها بطلب العضوية منذ عشرات السنين، وأن روسيا سارعت بالاستجابة لطلب تركيا تزويدها بأحدث نظم الدفاع الصاروخية، يتبين لنا حجم الهوة التي تفصل بين تركيا وحلف شمال الأطلسي، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأن انسحابها منه رسمياً بات مسألة وقت، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى دوران عجلة تفكك الحلف نفسه.

 
* كاتب مصري.