رائد محمد الدبعي - النجاح الإخباري - الشهيد روحي شومان: رائحة الحنطة وعبق الياسمين بقلم: رائد محمد الدبعي روحي شومان، أيها الشهيد البهي النقي الجميل العذب الوضاء. لو قدر لي أن أعتذر وأكره وأعيد وأشتهي وأبكي وأحتضن لاخترت عمر العشرين، ففيه أثمرت شجرة أخوتنا التي أظلت أحلام شابين في عمر الياسمين، وفي ظلال أيامه عشنا الحياة بكامل مشمشها من الفرح والوجع والبراءة، وفي ثناياه صفعني القدر بغيابك الجسدي على يد جندي عنصري، لم يجد سوى قلبك مستقرا لرصاصته، التي زرعت حضورك الدائم في مصاطب الروح، وثنايا الذاكرة، تمامًا كوشم فرعوني لا تمحوه الأيام، ولا تحجبه السنوات، عمر استنزفت أيامه مشاعري، وانطفأت به شعلة توقعاتي. فبغيابك يا أخي عشت بين عمر العشرين وعمر الأربعين عمرا طويلا أسميته عمر الحسرة، سقيت أيامه وساعاته ودقائقه وثوانيه بالدمع وحراسة الذكريات، ورعاية نجوم أحلامنا كي لا تنطفئ، فأي شباب هذا الذي يعتصرنا بكل هذه القسوة والوجع. - "كل حي يموت وتدوم الحياة.

يموت حضورك ليحيا غيابك، عليك أن تعتاد، أو أن تتناسى، عليك أن تروض نفسك على التعايش مع الفراق، وأن تكف عن اجتراح الحزن"، أجابني صوت من السماء، هو صوت روحي الذي لا يشبهه صوت في الدنيا، صوت رفيق الدرب، وطهر الرغيف ووجهه القمر.

لست حزينا، لكنني مقهور جدا، أنا أولى بك من التراب، لماذا لم تقاوم إغراء الشهادة، ولماذا لم تستجب لغواية الحياة، وعن أي نسيان تتحدث، أخبرني أين يباع النسيان وأين أجدُ ملامحي السابقة، وكيف لي أن أعودُ لنفسي، لقد كنا أوركسترا جميلة، فتركتني كناي يبكي وحيدا، لا استطيع التحرر من الذكريات، ثم أخبرني، كيف ارتضيت أن ترحل بتلك المراسم الساذجة البسيطة، محمولا على أكتاف مئات الشباب، ربما الآلاف، لا يهم، على أنغام أناشيد رديئة ومكررة، لا زالت تفتح جرحا غائرا كلما مرت بالذاكرة، كان يليق بك وداعا كوداع "أخيل" "لبتروكلس"، خيول وطرواديون ودخان الى السماء، لقد منعونا حتى من إقامة بيت عزاء يليق ببهاءك، فقد اجتاحوا البلدة القديمة، وهدموا بيت عزاءك، لكنني أقمت لك حفل تأبين على دوار الشهداء، شارك به الآلاف، ربما بعضهم اليوم معك بالجنة، اسألهم وسيخبروك. - أعلم جيداً، فقد كنت معكم، كنت بين صدرك وأنفاسك، ولو خيرتموني لاخترت أن تشتروا خبزًا للفقراء، أو تضيفوا كتبًا لإحدى المكتبات العامة بدلاً من هذا التبذير الذي لا يستجلب اهتمام الشهداء. فما وجدناه هنا من حفاوة يتجاوز الوصف، ولكن شكراً على أي حال. ثم أن وداعي كان يليق بالشهداء، كان وداعًا من لحم ودم، من دموع وحسرة.

هل نسيت دموعك، وصدمتك، وسؤال أمي لك عن رفيق الدرب؟ أما وداع "بتروكلس" فقد كان أحد أساطير الميثولوجيا الإغريقية. لا تغريني أبداً هنا في الجنة، فحضوري هو حضور الشهداء. أما وداعه فقد كان تعبيرًا عن ثقافة القوة الزائلة، فحينما كانت أثينا قوية، كانت اللغة اليونانية سيدة اللغات. وعندما سقطت، صارت اللغة اللاتينية طبق موساكا، وصارت اللغة الرومانية بعد سقوط روما طبق سباجيتي. الثقافة يا أخي ليست عدد الرصاصات التي تطلقها، إنما عدد الورود التي تزرعها للأجيال القادمة، ومساحات سهول الحنطة التي تغطي سهول بلدك. أصبحت فيلسوفا في الجنة. أخبرني كيف تقضي يومك هناك دوني. هل تمتطي صهوة الغمام، أم تسبح في بحار العسل؟ حتى هذا لا يليق بشاب بعمر العشرين.

اسمعني جيداً، لقد تجاوزت عقد العشرين والثلاثين، لكنني لم أتجاوز عقدة كراهية الموت، سأخبرك سرًا، لا أدري ربما تعلمه جيدًا، فأنتم هناك بالجنة، ربما تعرفون ما يدور بعقولنا، لم أعد أخشى الموت، لكنني أكره موت الأطفال والشباب، لأنه موت جبان ووضيع. فالموت في مخيالي لا يليق سوى بالكهول، أصحاب التجارب الواسعة، والشعر المكلل بالثلج، والبشرة المليئة بالتضاريس المتعرجة، أما أنت فلست كذلك، بشرتك كانت كنقاء نهر في الجنة، وشعرك كان بلون الليل. فلماذا مشيت معه وتركتني وحيدًا مكسور الظهر كحصان عاجز في صحراء قاحلة؟ أتدري، لم ألق حجرًا على دورية احتلالية منذ فعلناها معًا آخر مرة عام ٢٠٠٣، لكي لا أكذب، لقد حاولت أن أفعلها يوم جنازتك وأنت محمول على الأكتاف، يومها صرخت بي أمنا، ألا يكفي شهيد واحد في هذا اليوم؟ لكنني لم أجد دفء الحجر الذي اعتدته حينما كنا نلقي الحجارة سوية، اكتشفت يومها أنه دفء الأخوة والصداقة والاندفاع الذي انطفأ برحيلك يا أخي. قتوقفت عن القاء الحجارة على قطاع الطرق وقراصنة أحلامنا منذ ذاك اليوم، أتعرف هذا الشعور المقيت حين تكون في المنتصف القاتل.

لا قدرة على الابتعاد ولا رغبة بالاقتراب أكثر. يجتاح قلبك جيش من الذكريات ويحتل كل خلاياك دون رحمة، أتذكرك بقرص العجة في ركننا المزوي عند مطعم أبو سامر. أتدري، لا زال يبكي حتى اليوم حينما أطلب وجبتي وحيدًا في ذات المكان. ولا زال يقول حتى اليوم: "الله يرحم روحك يا روحي". منذ رحيلك لم يعد يمزح سائلا عند الحساب. "كم كاسة مي شربتوا"، هذا ما أعنيه يا أخي بأن الأماكن بعد رحيلك فقدت الروح والمعنى. وأرى وجهك في حجارة شارع الحدادين وأراك مزروعًا كلوزة شهية أمام مدرسة جمال عبد الناصر، هناك حيث ودعتك آخر مرة مساء الجمعة، يوم حدثتني عن حلمك بالغناء، وبدأت تقص علي التفاصيل، بالحقيقة لم أتشجع أبدًا للفكرة حينها، لكنني لم أشأ أن أنغص عليك اندفاعك العاطفي، خاصة بعد خلافنا قبل يومين لأنني لم أتصل لانشغالي بالامتحانات النهائية بالجامعة، اتفقنا حينها أن نلتقي صباحًا لترتيب زيارتنا للرئيس الراحل ياسر عرفات، لنضعه بصورة ترتيباتنا لتنظيم مؤتمر شباب فلسطين، بالمناسبة، لقد ذكرك ياسر عرفات بالاسم، وأرجوك أن تزرع قبلة على جبينه، ووضعنا صورتك على كتيب المؤتمر تماما كما كنت تشتهي، وربما أكثر.

- صهوة غمامة؟ نهر عسل ! ما هذه الأفكار التي لا تليق بالفلسطيني. دعني أخبرك عن آخر قصيدة قرأتها لشاعر الثورة الجزائرية مفدى زكريا، والتي قال فيها: "اعصفي يا رياح، واقصفي يا رعود، واثخني يا جراح، واحدقي يا قيود، نحن قوم أباة، ليس فينا جبان"، كما أنني أعكف على قراءة أدب هوشي منه، فقد كان كاتبًا وشاعرًا وثائرًا في ذات الوقت، كما أنني منشغل باستقبال الشهداء من الأطفال منذ السابع من أكتوبر، صدقني، لقد أصبح للفلسطينيين نصابا هنا في الجنة، لا تقلق لدي هنا الكثير مما يجلب الاهتمام.

ماذا تحاول أن تقول؟ أنت تعرف ميلي الجارف للقراءة، كأنك تدعوني لزيارة أبدية، حسنًا، الموت حق، و" وكل من عليها فان"، وأنا اشتاق لك فعلا، لكن دعنا نتفق أولا، قبل أن آتي، دعنا نرتب فوضى جنوننا، وأرسل لي أفكارا تليق برجل في مطلع العقد الرابع، أضف أنني لا أرى أن فكرة النصاب بكل ما بها من رمزية مغرية أو مقبولة، فالأطفال خلقوا ليعيشوا حياة مديدة، لا ليصوبوا نصابنا في الجنة، صحيح، هل تشتاق لفلسطين من الجنة؟ - اشتاق لها! أهذا حقا سؤال ؟ سلامًا لأمي، أخبرها أن للجنة رائحة تشبه رائحة طهرها، وأن المحبة على جوانحها هي التي جعلتني إنسانًا، لن أخبرك بكل الأسرار. فبهاء الجنة بما تخفيه لا بما تظهره. وداعًا الآن، ربما إلى اللقاء. حقًا لا أعلم، فهذا بيد الله وحده. لكني لم أنساك أيضا. أخي يا رفيق الدرب،،،. أحبك كما يشتهي الموت، أو كما تشتهي الحياة، فلم يعد من اليسر التفريق بين الحياة والموت في هذا الزمان الرديء، سيبقى جسدك المسجى أجمل الأغنيات، وسيبقى بهاء وجهك ذاكرة الزمان والمكان، عشت لك، ولمن حولك، ولمن قبلك، ولمن بعدك، أشمك في رائحة الحنطة، وفي زغاريد الولادة، وفي ألوان علم فلسطين، ألم يغطي جسدك الطاهر يوم قرر القناص أن ليس سوى قلبك ملاذا لرصاصته الغادرة، وداعًا يا سيد الخبز والملح ويا ظريف الطول، لا زلت فتيا وقويا وجميلا كما كنت دوما، وداعًا وإلى لقاء نتعانق فيه عناق الأخ لأخيه، يومها سأدثر قلبي في أضلاعك وأبكي كثيرا.