وكالات - سنية الحسيني - النجاح الإخباري - جاء الانقلاب العسكري في دولة الغابون، أمس، لينهي حكم عائلة بونغو الذي استمر عقوداً، وليضيف حلقة جديدة إلى سلسلة الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية.
أتى انقلاب الغابون، أمس، ودول القارة والعالم ما زالت تعالج ذيول الانقلاب في النيجر، آخر دولة في غرب أفريقيا يستولي فيها الجيش على السلطة بعد بوركينا فاسو، غينيا، مالي، وتشاد. ففي تموز الماضي اعتُقل الرئيس النيجري المنتخب محمد بازوم من قبل قوات الحرس الرئاسي التابعة له، وأصبح رئيس حرسه الجنرال عبد الرحمن تشياني رئيساً لحكومة انتقالية. بعد الاستيلاء على السلطة، ألغى المجلس العسكري النيجري اتفاقيات دفاعية مع فرنسا، واجتمع مع قادة "فاغنر" الروسية الانتماء لمناقشة أشكال التعاون الممكنة. وقررت النيجر وقف صادراتها من الذهب واليورانيوم إلى فرنسا. بعد الإطاحة بالرئيس بازوم، طالب زعماء الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، والتي تعد النيجر واحدة منها، المجلس العسكري بإعادة بازوم إلى منصبه أو مواجهة خطر تدخل عسكري إقليمي.
وتتحالف فرنسا وتعد بتقديم الدعم العسكري للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، التي استعد عدد منها لنشر قواته في النيجر، وفرضت المجموعة عقوبات قاسية على النيجر، فقطعت ٧٠ في المائة من إمدادات الطاقة عن البلاد، وجمدت حسابات الحكومة وأغلقت مصارفها. كما أعلنت فرنسا عن عدة إجراءات عقابية بحق النيجر، منها تعليق كافة المساعدات التنموية والدعم المالي، وأكد الأوربيون كذلك أنهم سيمتنعون عن دعم الميزانية النيجرية، كما أعلن البنك الدولي إيقاف صرف الأموال إلى النيجر حتى إشعار آخر. ويعاني سكان النيجر، الذين يزيد عددهم على ٢٤ مليون نسمة، من الفقر، حيث يعيش اثنان من كل خمسة أشخاص في فقر مدقع، بأقل من نحو دولارين في اليوم، ومن انعدام الأمن الغذائي.
في مقابل ذلك، أخذت مالي وبوركينا فاسو وغينيا موقفاً معارضاً بقوة للتدخل العسكري. وفي ظل كل هذه التطورات المتسارعة، تضاعفت الهجمات التي تشنها الجماعات المتحالفة مع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية على حدود النيجر، كما أطلق اثنان من قادة المتمردين السابقين المتحالفين مع بازوم حركات مسلحة جديدة لإعادته إلى السلطة، وهي تحركات ليس من الصعب معرفة من يقف خلفها.
بدأت مشكلة النيجر في شهر آب من العام الماضي، وفي ظل تدهور العلاقات بين فرنسا ومالي، فسحبت فرنسا قواتها منها وأرسلتها للنيجر، في ظل عدم وجود ثقة شعبية بقيادتها. فالعديد من النيجريين نظروا لنتيجة الانتخابات الأخيرة التي جرت خلال عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١ على أنها مسرحية. وسمح بازوم بجعل النيجر قاعدة فرنسية تنطلق منها عملياتها العسكرية في منطقة الساحل. وتلقى ٧٠ مليون يورو من فرنسا في شكل منح وقروض جديدة. وتحصل فرنسا على اليورانيوم النيجري بأسعار رخيصة لازمة لصناعة الطاقة النووية. وطورت الولايات المتحدة أيضاً مصالح أمنية كبيرة في النيجر، وتستخدم قاعدة طائرات مسيّرة تابعة لوكالة المخابرات المركزية للقيام بمهام مراقبة سرية فوق جنوب ليبيا، واستثمرت مؤخراً أكثر من ١٠٠ مليون دولار في قاعدة جوية في أغاديز لتوسيع قدرات الاستخبارات في المنطقة، وتحتفظ بحوالى ١٠٠٠ جندي فيها. والنيجر دولة غنية بموارد الطاقة، إذ تمتلك واحداً من أكبر احتياطيات العالم من اليورانيوم وتعد سابع أكبر منتج له، فضلاً عن امتلاكها لكميات كبيرة من احتياطيات الذهب والنفط، كما تم الكشف عن احتياطيات من الفحم عالي الجودة في جنوب وغرب البلاد. تعتمد باريس على النيجر في الحصول على ٣٥ في المئة من احتياجاتها من اليورانيوم، لتشغيل محطاتها النووية التي تولد معظم طاقة البلاد.
على مدى العقد الماضي، أدى التدخل الفرنسي بدعم أميركي في منطقة الساحل إلى مساعدة حكام عسكريين للوصول للسلطة في أربع بلدان من دول الساحل الخمس، إلا أنه في ظل ضعف المؤسسات المدنية، والفشل في توفير الأمن، سحب الغرب دعمه لتلك الأنظمة بعد ذلك، فلجأ المجلس العسكري في مالي وبوركينا فاسو إلى روسيا طلباً للمساعدة الأمنية. وتعد التوترات الداخلية في تلك البلدان الدافع المباشر للانقلاب، والتي تصاعدت نتيجة لسياسات غربية غير مدروسة في منطقة الساحل استمرت لسنوات.
وقارة أفريقيا التي تضم ٥٤ دولة، تسبب الغرب في معاناتها منذ قرون، بدءاً بعهد العبودية ثم حقبة طويلة من الاستعمار وانتهاءً بالاستعمار الجديد، الذي جاء في أعقاب استقلال تلك الدول أثناء وبعد الحرب الباردة لضمان استمرار سلب خيرات هذه القارة. رسمت القوى الأوروبية الحدود بين الدول الأفريقية، بشكل عشوائي حسب مصالحها وأهوائها والتنافس فيما بينها، في تجاهل للحقائق العرقية والجغرافية والتاريخية لهذه المنطقة، فغرست بذلك بذور الصراع وعدم الاستقرار. وبعد استقلال هذه الدول، وانتهاء الحرب الباردة، لم تركز الدول الغربية، في ظل استمرار مسيرة استغلال بلدان القارة على أنظمة الحكم فيها، بقدر تركيزها على وجود سلطات موالية لها، تمكنها من تحقيق مصالحها. خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، شهدت أفريقيا ٨٢ محاولة انقلابية، نجح ما يقرب من نصفها، فتعاملت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مع أفريقيا باعتبارها ساحة للتنافس على الموارد، والمواقع العسكرية، والأصوات في الأمم المتحدة، الأمر الذي يفسر دعم القوتين العظميَين لأنظمة موالية لتحقيق سياسة الاحتواء. قامت القوى الاستعمارية ببناء اقتصادات لخدمة احتياجاتها الخاصة، مع التركيز على تصدير الموارد. وكانت البنية التحتية التي ورثتها أفريقيا عند الاستقلال مصممة لتناسب الاقتصاد الاستخراجي. فتم تصميم معظم الطرق والسكك الحديدية التي بنتها القوى الاستعمارية على سبيل المثال لنقل السلع الخام إلى الموانئ، الأمر الذي أبقى الدول الأفريقية غير مترابطة فيما بينها. وبعد انتهاء الحرب الباردة، قام البنك الدولي بتوجيه الأموال نحو حلفاء الولايات المتحدة في القارة، وأصبحت المساعدات الخارجية المشروطة قاعدة المعاملات الاقتصادية مع دول القارة، التي لم يحقق معظمها التنمية المنشودة. وتواجه العديد من دول القارة صعوبة في ضمان أمنها الغذائي، وتستورد ما يقرب من ٩٥ في المائة من السلع الطبية، ولا يزال نحو ٦٠٠ مليون شخص فيها يعيشون دون الحصول على الكهرباء.
نما صعود النفوذ الروسي مع فك الارتباط الأميركي في جميع أنحاء القارة، وبدأت عودة روسيا إلى الظهور كقوة عظمى في أفريقيا في أواخر التسعينيات من خلال تقديم المساعدات العسكرية الفنية والتنموية. وحققت مجموعة فاغنر التابعة لروسيا تواجداً في أفريقيا، منذ نشر مقاتليها لأول مرة في ليبيا والسودان ما بين عامَي ٢٠١٥ و٢٠١٧، فأنشأت قواعد في أكثر من ١٢ دولة أفريقية. وبفضل الفوضى التي أحدثها تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا جزئياً، ترسخ الإرهاب في مختلف أنحاء منطقة الساحل، فأثر على بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر. وعلى نحو مماثل، في شرق أفريقيا، يعمل التطرف على تقويض الاستقرار في كينيا، وموزمبيق، والصومال، وتنزانيا. أدى ذلك إلى استقطاب عميق بين الأفارقة، وأعطى روسيا فرصة لتقديم نفسها على أنها دولة مناهضة للسياسة الغربية وحارس لسيادة الدول.
في العام ٢٠٢٠، وقّعت شركة الأسلحة الحكومية الروسية عقوداً ضخمة مع عشر دول أفريقية، وفي العام التالي، حصلت على صفقات جديدة في قمة عقدت في كوت ديفوار. وتمتلك شركة روساتوم العملاقة للطاقة النووية المملوكة للدولة في روسيا مشروعاً في أفريقيا مع مصر، وتحاول بيع مفاعلات في غانا ونيجيريا ورواندا، في ظل النقص المزمن بالكهرباء. كذلك قامت الحكومة الصينية بتوسيع وجودها بشكل كبير في أفريقيا، وصلت التجارة بين الصين والدول الأفريقية إلى مستوى تاريخي بلغ ٢٥٤ مليار دولار في العام ٢٠٢١. وتمتلك الحكومة الصينية العديد من مشاريع الطاقة والسكك الحديدية والموانئ في جميع أنحاء القارة. ويعتمد الاقتصاد الرقمي المتنامي في أفريقيا على البنية التحتية الرقمية الصينية وشركات الهاتف المحمول مثل هواوي، ويرجع ذلك إلى أن الشركات الأميركية لم تتعامل مع معظم الدول الأفريقية، لأنها فقيرة. وتلجأ الدول الأفريقية للبنوك الصينية في ظل تباطؤ الغرب في تمويل البنية الأساسية لدول أفريقيا، خلال العقود الأخيرة الماضية. وتستثمر الصين في بناء السكك الحديدية عالية السرعة والمطارات ومحطات الطاقة.
وفي إطار مواجهة نفوذ روسيا والصين المتزايد، كشفت إدارة بايدن عن شراكة أميركية أفريقية جديدة في القرن الحادي والعشرين. تم طرح الشراكة من أجل الاستثمارات العالمية في البنية التحتية التي تم إطلاقها في قمة مجموعة السبع العام ٢٠٢٢ لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصيني. وأعلنت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مؤخراً عن تخصيص ١.٣ مليارات دولار للمساعدات الغذائية والوقاية من الأمراض المعدية في القرن الأفريقي.
تناضل أفريقيا باستمرار من أجل نظام عالمي أكثر إنصافاً، في ظل كونها شكلت هدفاً لظلم تاريخي. وثمة ثقة أفريقية متنامية في المنظومة الاقتصادية والسياسية التي تقدمها دول مثل الصين وروسيا لدول القارة في مقابل تآكل الثقة بالدول الغربية. فالصين وروسيا لا ترهنان دعمهما لدول القارة بشروط سياسية أو بقضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يجعل التعامل بينهما وبين دول القارة أكثر يسراً. وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي، رفض العديد من الدول الأفريقية اتخاذ موقف قوي ضد موسكو، ورفضت ١٧ دولة أفريقية التصويت لصالح قرار للأمم المتحدة يدين روسيا، وحافظت معظم دول القارة على علاقات اقتصادية وتجارية مع موسكو على الرغم من العقوبات الغربية.