وكالات - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - إن كان للأحداث التي تمرّ بها فرنسا من أهميّة «جارية» فهي أنّ هذه الأحداث هي مجرّد «بروفات» لعنف قادم لا محالة في معظم البلدان الغربية، كما أرى وأظنّ.
في المرحلة التي يمرُّ بها عالم اليوم ليس لدى منظومات النيو - ليبرالية، أيّ حلول حقيقية، قابلة للتصدّي للأزمات على كلّ صعيد، وقادرة على إخراج بلدان «الغرب» الأوروبي أساساً من موجات العنف القادمة، وهي قبل كلّ شيء عاجزة عن رؤية ما يهدّد وحدة وتماسك مجتمعاتها في المدى المنظور، وذلك لأنّ امتلاك رؤى كهذه يتعارض ويتناقض مع جوهر الفلسفة التي تقف خلف أيديولوجيتها الموجّهة لكلّ سياساتها، ولكامل توجّهاتها.
والحقيقة هي أنّ أوروبا عموماً، و»الغربية» تحديداً تعيش مرحلة انعدام الحيلة، وعبثية البدائل، لأنّها لا تريد أن تقرأ سمات المرحلة التاريخية الجديدة التي يمرّ بها عالم اليوم، ولا تريد أن تقرأ سمات المرحلة الجديدة التي تمرّ بها النيو - ليبرالية من احتضار وأُفول.
كانت مرحلة السيطرة الكاملة للأُحادية القطبية ربّما، وخصوصاً بُعَيد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتربّع «المحافظون الجُدد» على سدّة الحكم في الولايات المتحدة، وانتقال «عدوى» أيديولوجيتهم إلى «الغرب» الأوروبي، والهزائم الكبرى التي مُني بها «اليسار» في أوروبا، وتراجع أحزاب «الاشتراكية» و»الاشتراكية الديمقراطية».. كانت مثل هذه السيطرة ربّما مُواتية لـ النيو - ليبرالية، و»فرصة» تاريخية ليس لنشوء الشعبوية، وإنّما لازدهارها، ولاحتلالها مواقع متقدّمة في الخرائط السياسية في معظم هذه البلدان، أيضاً.
تقلّص خلال فترة المدّ النيو - ليبرالي دور أحزاب المعارضة «التقدمية»، وتحولت أحزاب «الخُضر» إلى الواجهة الأولى للمعارضة، وتلاشى الكثير من الأحزاب «التقليدية»، وخلقت «الثورة العلمية والمعرفية» أجيالاً جديدة من «اللامُنتمين» الذين يسيرون في رِكاب «الشعبوية» أو في رِكاب الأحزاب «القومية» المتطرّفة.
وما أن حطّت النيو - ليبرالية رِحالها، وانكشف أمر «الشعبوية» وخداعها للناس، وانفضح كامل نظامها الاجتماعي والاقتصادي الهشّ، والمعادي في جوهره للمكتسبات الاجتماعية التي حقّقتها المراحل السابقة على حقبة النيو - ليبرالية المُتوحّشة، والشعبوية المُنفلتة من عِقالها بالكامل حتى جاء حدث مقتل الفتى الفرنسي من أصولٍ جزائرية ليكشف لنا جميعاً مدى هشاشة الواقع الاجتماعي في هذه البلدان، ومدى الأخطار التي يُنذر بها الواقع الاقتصادي المتردّي فيها، بعد أن كانت أزمة «كورونا» قد كشفت وفضحت ليس تهتُّك النظام الصحّي في أوروبا، وإنّما انهياره الكامل في بعض البلدان.
لا تريد هذه الأنظمة أن تفهم أنّ لا حلول لديها للأزمات التي ستضرب أوروبا في المدى المنظور، ولا تريد هذه الأنظمة أن تفهم أنّ ما زرعوه بأيديهم من سياسات «عنصرية»، وسياسات «تمييزيّة» ضدّ ملايين المُهاجرين سيرتدّ عليهم، وسيرتدّ عليهم بالعنف المُضاعف، طالما أنّ «الشرطة» في هذه البلدان تتعامل مع «مواطنيها» من غير الأعراق «الأوروبية» بهذا القدر من العنف والاستهتار والعنصرية.
ماذا ستفعل فرنسا يا تُرى إذا امتدّت هذه الأحداث، وتواصلت لعدّة أيّام أُخرى، أو لعدّة أسابيع أُخرى؟
هل ستتمكّن من وقف التدهور، ومنع الانزلاق إلى «حربٍ أهلية» للمرّة الأولى في أوروبا منذ ما يزيد على أكثر من قرنٍ كامل على تلك الحروب فيها؟
هل بإمكانها ــ على سبيل المثال ــ «ترحيل» خمسة أو ستّة ملايين من مواطنيها، وطردهم من «بلدهم» الذي وُلدوا فيه، وعاشوا فيه؟
وكيف لبلدٍ مثل فرنسا أن تمنع بعد الآن إعادة «ازدهار» العنصرية والشعبوية التي «بدأت» تطالب باستخدام أعلى درجات العنف في التعامل مع مئات آلاف المتظاهرين؟
ثمّ ماذا ستقول فرنسا لملايين الفرنسيين الذين أدانوا ظاهرة عُنف الشرطة وعُنصريتها، ومسؤوليتها المباشرة عن انفجار هذه الأحداث؟
لا أحد يقبل أعمال النهب، أو الاعتداء على الممتلكات، أو غيرها من أعمال العنف التي شهدتها الأحداث حتى الآن، لكن السؤال هو: أين هي رُدود الأفعال الفورية، أو السياسات التي بادرت إليها الحكومة الفرنسية لصدّ عُنف الشرطة وسُلوكها العنصري؟ وما هي الإجراءات التي اتخذتها لمواجهة ما كانت قد تعرّضت له فرنسا في مناسبات مماثلة سابقة، قبل أقلّ من خمس سنوات فقط؟
الجواب هو: لا شيء، والجواب هو الإمعان في نفس السياسات التي أدّت إلى هذا العنف، والتي لن تؤدّي إلّا للمزيد من هذا العنف.
وإذا اعتقد جيران فرنسا في هولندا، وفي ألمانيا، بأن تصريحاً بالاعتذار عن الحقبة الاستعمارية، والتوحُّش الهولندي ضد السكان الأصلانيين في المستعمرات الهولندية السابقة، أو تصريح الرئيس الألماني أولاف شولتس بعبث السياسات المعادية للمسلمين.. إذا اعتقد هؤلاء الجيران أنّ بالإمكان «درء» انفجارات قادمة لديهم، أو «التحصُّن» ضد أحداث مشابهة في بلدانهم، فإنهم على ضلالٍ كبير.
ليس أمامهم إلّا تغيير كامل مسار «العنصرية» الذي يتستّر خلف «ديمقراطية» زائفة عندما يتعلّق الأمر بالعرب، أو حتى المسلمين، في حين «تختفي» هذه السياسات العنصرية في الغالب عندما يتعلّق الأمر بأعراق أخرى، أو أديان أخرى..!
لهذا كلّه أقول، ليس لديهم مخارج ولا حلول، وهم اليوم من عديمي الحيلة، وبدائلهم عبثية تماماً طالما أنهم يسيرون على نفس هذا النهج.
هذا «غرب» يُدمّر كلّ شيء، ويُدمّر نفسه أوّلاً، لأنه أجّر عقله السياسي للتوحُّش الرأسمالي، وأجّر وحدة مجتمعاته لأذناب العنصرية والتعصُّب، ونظريات التفوُّق والاستعلاء والتعصُّب القومي والديني، وما يحدث لدى ربيبة «الغرب» في منطقة الإقليم، أي دولة الاحتلال الصهيوني ليس سوى النموذج الذي سيسير عليه هذا «الغرب» إن آجلاً أو عاجلاً إذا لم يتمّ وقف تدهور أوروبا المحتوم.
هذا «الغرب» يُدمّر نفسه لأنّه تحت ستار «حرّية التفكير» وتحت ستار «حرّية الاختيار» ينخرط في حروب الإبادة التي تخطّط لها بعض الدوائر «الفاشية» في مؤسّسات القرار «الغربي».
تدمير المجتمع، تدمير العائلة، تدمير الآخر، التحريض على العنف، وعلى الكراهية، وتمجيد العنصرية تحت «ستار» «النقاء العرقي» و»الخصوصية» الأوروبية، والتعامل مع «الأجانب، كمستودع لتوفير وتعويض نقص العنصر الأوروبي.
هذه الثقافة الأيديولوجية التي يعرضها «الغرب» كبدائل لأزماته، هي نفسها ستسرّع، وستفاقم من هذه الأزمات.
عندما تتحوّل غالبية المؤسّسات السياسية، ومعظم وسائل الإعلام، وتتجنّد «لحروب المثلية»، ويتمّ تصوير هذه الحروب وكأنها الملاذ والمُنقذ للأزمات في هذه المجتمعات.. فعليك أن تقرأ على مستقبل هذه المجتمعات السلام ثم السلام.
وعندما يتمّ تصنيف كفاءة السياسي وجدارته بمقدار «حماسه» وتأييده لـ «المثلية» فإنّ النيو - ليبرالية تكون قد وصلت إلى أسفل الدرك في المنظومات القيمية القادرة على وحدة المجتمع، لأن تدمير الأسرة تحوّل إلى هدف، وليس إلى موضوع للإصلاح.
«الغرب» ما زال في بدايات انهياره، وأحداث فرنسا مجرّد شرارة، ودون أن تتغيّر المنظومة السياسية التي تُحكم سيطرتها الآن واليوم على أوروبا، المصير واحد، والاتجاه واحد، والحتمية الاجتماعية قادمة لا محالة.