وكالات - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - هل يُعقَل أن تكون العلاقات الروسية الإيرانية قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تعاونٍ وتنسيق، وأن تكون هذه العلاقات قد تحوّلت من دائرة الاتفاقيات إلى دائرة المعاهدات!
حسب التعبير الإيراني نفسه في وصف هذه التحوُّلات، هل يُعقَل أن يجري كل ذلك دون أن تكون هناك درجة من التفاهم ومن التفهُّم بين الجانبين حيال الضربات الإسرائيلية، الصاروخية والجوية لكل الأراضي السورية، وفيما يُشبه الاستباحة الكاملة؟
لا أدّعي أن لديّ جواباً شافياً عن هذا السؤال.
في مرحلة سابقة كان يُنظر إلى هذه الإشكالية، والتي هي مُفارقة من النوع المحيّر على أنها درجة معيّنة من الرغبة الروسية بإبقاء سورية تحت المظلّة الروسية، وإلى درجةٍ معينة إبقاء القرار السوري تحت السقف الروسي.
وكان يجري تفسير «الضربات» الإسرائيلية بكونها «أداة» من الأدوات الروسية للتخفيف من «مخاطر» النفوذ الإيراني في سورية، وبالتالي الإبقاء عليها تحت سقف تلك المظلّة، وهذا التفسير يُعتبر غامضاً، أيضاً.
إضافةً إلى ذلك كلّه كان يُنظر إلى «السكوت» الروسي عن تلك «الضربات» كنوعٍ من «المساومة» الميدانية التي تحفظ درجة معيّنة من «التوازن» في العلاقة الروسية الإسرائيلية، وفي العلاقة الروسية الأميركية. إن لم يكن عموماً، ففي الواقع الميداني القائم على الأرض السورية، وأبعد من ذلك كان يُنظر إلى هذه «الضربات» باعتبارها الشكل الوحيد الممكن لتجنّب صِدَام روسي إسرائيلي لا ترغب به إسرائيل، ولا روسيا، وطبعاً لا ترغب فيه الولايات المتحدة.
على أساس كلّ ذلك كان المراقبون والمتابعون، على مختلف المستويات، ينظرون إلى هذه الإشكالية بأن إيران لم يكن أمامها سوى القبول، أو حتى التقبُّل لهذه المعادلة المُركّبة.
وعلى هذا الأساس نفسه كان «الخليج» يرى فيها «مساعدة لا تقدّر بثمن» لتحجيم إيران في سورية، و»المساعدة» في الحدّ من إمداد «حزب الله» بالسلاح، خصوصاً السلاح الأكثر دقّة وتطوّراً، ما «يخفّف» من نفوذ الحزب على الساحة اللبنانية.
كما أن «النظام العربي» عموماً كان في نظرته لهذه «الضربات» لا يخفي «تعاطفه» مع هذا الفهم، وهذا السياق.
في مراحل معيّنة من سياق هذه الإشكالية كانت «الضربات» الإسرائيلية تصل إلى الأراضي العراقية لنفس الأسباب، وكان خطّ «الإمداد» العراقي ــ وربما ما زال ــ هدفاً لها، ووصلت الأمور إلى «ضربات» في «اليمن» نفسه، إضافةً إلى «النشاطات» الإسرائيلية و»العمليات الخاصة» التي قامت بها إسرائيل في البحر الأحمر، مقابل بعض النشاطات المضادّة هناك.
وعندما كانت تقع بعض «الاحتكاكات» الخطرة، كانت إسرائيل تُسارع إلى احتواء هذه الاحتكاكات، وإعلانها عن «التزامها» بالتوازن «المعمول به»، واستمرار العمل على تجنُّب تكراره بزيادة التفاهم على أهمية التنسيق الذي يضمن ذلك.
الاستنتاج المنطقي الأوّل، والذي يغطّي هذه المرحلة كلها هو أن إيران وسورية، و»حزب الله» كانوا إمّا «متفهّمين» لهذه المعادلة، وإمّا «عاجزين» عن اختراقها، أو غير جاهزين لتحمُّل مسؤولية وتبعات هذا الاختراق.
يعتقد كل من يؤيد أو كل من يحسب نفسه على «محور الممانعة» أو «المقاومة» أن إيران هي مركز الثقل الرئيس في هذا المحور، وأن «الإستراتيجية» الإيرانية في الردّ على إسرائيل، يجب أن تنطلق من الإستراتيجية التي ترى أن يكون الردّ من «ساحات»، وفي «ساحات» أخرى.
هنا لا يوجد في الواقع سوى ساحة الأعمال الاستخبارية من خارج إيران، كما حصل عندما ضربت إيران مركزاً لـ»الموساد» في كردستان، أو من الساحة الفلسطينية بوساطة دعم وإسناد الحركات الإسلاموية في قطاع غزة، إضافة إلى دعم وإسناد بعض المنظمات الفلسطينية المحسوبة على هذا المحور كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو بعض المنظمات الصغيرة المحسوبة على دمشق.
بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وزيادة أشكال الدعم والإسناد المتبادل بين إيران وروسيا، وانخراط إيران في «المحور الروسي الصيني» أكثر من أي وقت مضى، والكشف عن أن إيران تعمل جاهدةً لتجنّب الحرب مع إسرائيل، ومع الولايات المتحدة، والتي عبّرت عنها إيران بصورةٍ واضحة من خلال استدارة كبيرة وكاملة حيال الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن خلال الإسراع إلى «فتح» صفحة جديدة مع العربية السعودية.. لا يمكن أن ينتظر أحد بأن تحاول إيران خرق «المعادلة» التي تحدثنا عنها، وليس وارداً أن يكون لدى إيران مثل هذا التفكير الآن، والآن بالذات.
بل على العكس من ذلك، فإن طهران باتت تُولِي اهتماماً أكبر بتجنّب أي انزلاق من هذا القبيل، وذلك لأن من شأن انزلاق كهذا أن يبدّد كامل الإستراتيجية الإيرانية التي يقف خلفها الرجل القوي في إيران، وهو المرشد علي خامنئي نفسه.
كما تراهن إيران على أن تتمكن روسيا من إعادة ترتيب أوراق الحلّ السياسي لـ»الأزمة السورية»، وهي باتت تخطّط في الواقع للإبقاء على أعلى درجة من الانسجام مع القيادة الروسية، وتعمل على محاولة «التفاهم» مع تركيا، بعد أن ضمنت دعم مصر ودول الخليج العربي والأردن لهذا الحلّ، أو بالأحرى لمسار هذا الحل.
صحيح أن لتركيا حساباتها الخاصة، بما في ذلك السكوت، إن لم يكن الإيعاز لفتح سفارة أذربيجانية في «تل أبيب»، وزيادة «التحرُّش» الأذري بإيران سياسياً وإعلامياً، لكن تركيا بدأت مسار مناقشة الحل السياسي لـ»الأزمة السورية»، وهي «منفتحة» على التعاون مع موسكو طهران وروسيا تعمل على إيجاد قاعدة سياسية مشتركة لهذا الحل، وهو الهدف الرئيس للاجتماع الرباعي الذي تقوده موسكو.
يُضاف إلى كل ذلك أن الأزمة الإسرائيلية إذا ما قرأناها في إطار هذه الإستراتيجية الإيرانية حيال «معادلة» التوازن تشكل هي الأخرى ــ أي الأزمة الإسرائيلية ــ سبباً إضافياً وجيهاً، ونوعياً خاصاً لبقاء «الردّ» السوري الإيراني في نفس دائرة المرحلة كلها، وذلك لأن إيران تدرك جيداً أن هذه الأزمة بقدر ما تمثّله وما تنطوي عليه من قيود وكوابح في ظل احتدامها، وتأثيرها على وضع جاهزية الجيش الإسرائيلي، وعلى «تماسك» الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فإنها قد تمثل «فرصةً» لـ»اليمين العنصري والفاشي» في إسرائيل للهروب من هذه الأزمة.
من هنا، فإن الاستنتاج المنطقي الثاني هو أن إمكانية «الردع» السوري لاستباحة إسرائيل للأراضي السورية، والتي أخرجت ثلاثة مطارات سورية من الخدمة خلال أقل من شهرٍ واحد هي إمكانية ضعيفة، إن لم تكن معدومة في هذه المرحلة، أيضاً.
أظنّ، وليس كل ظنّ هو إثم، وإنما بعضه فقط، أظنّ أن روسيا ما بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تحوّلت إلى حربٍ بين روسيا و»الغرب» كلّه، هي من أقنعت إيران بالاستدارة التي أشرنا إليها، وهي الآن «تهندس» الحل أو للحل السياسي في سورية، وهي راضية كل الرضا عن الدور الصيني المتزايد في منطقة الإقليم، وهي تعمل لعودة قوية لكل من روسيا والصين فيه في إطار المعادلة الأكبر، وهي معادلة «الحرب الباردة» الجديدة، والتي ستعبّر عن نفسها بوجود عالم يُخلي مرحلة القطبية الواحدة، لتعدد الأقطاب في مصفوفة جديدة.
روسيا على ما أظنّ، وبالتنسيق الكافي مع الصين تعمل جاهدةً لإعادة ترتيب خارطة إقليم المنطقة بحيث يتقلّص النفوذ الأميركي، وتفقد الولايات المتحدة ميزة الهيمنة الكاملة، ويتم «الاعتراف» الدولي بحدود الدول الإقليمية، ما يحقق لكل من روسيا والصين نفوذاً جديداً لهما.
الدول الإقليمية هي: تركيا، إيران، السعودية، مصر، وإسرائيل.
في إسرائيل يفهمون جيداً هذه المعادلة الجديدة، لكنهم ليسوا على أيّ استعداد حتى الآن لتفهمها، والمرحلة التي تفصل الفهم عن التفهّم هي نفس المرحلة التي ستمتد فيها الأزمة الإسرائيلية، وهي نفس المرحلة التي ستمتد فيها الأزمة في أوكرانيا، وهي نفس المرحلة التي تفصلنا عن بدء رُسُوّ معالم خارطة الإقليم الجديدة، وفق المعادلة الدولية الجديدة، ووفق حدود «الدولة الإقليمية» الجديدة في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
وفي الإجابة عن سؤال العنوان: نعم يُعقَل، وذلك لأن السؤال لم يكن استنكاريّاً.
أمّا «الدولة الإقليمية» الجديدة في المنطقة فلنا إليها عودة.