وكالات - النجاح الإخباري - بقلم: المحامي يحيى دهامشة

ذكرنا أن الفشل في المنظومة الفكريّة الاشتراكيّة هو في قلب المنظومة وبنيتها. وليس كما يحاول الاشتراكيون في كثير من الأحيان تبرير فشل الدول الاشتراكيّة في أنّ المشكلة كانت

 

في الأشخاص وطريقة التّطبيق للنّظريّة. 

فاعتماد التاريخانيّة كما بيّنا في المقالتين السّابقتين، كانت من أهمّ الأسس التي تبني منظومة الفكر الاشتراكيّ، وهي منظومة خاطئة من أساسها. ومن خلال التاريخانيّة، اعتمد الاشتراكيّون الجدليّة عوضًا عن المنطق الصُوريّ كمنظومة للاستنتاج، كما استخدموها كملاذ وتُستعمل للتبريرات. لكي نبيّن أكثر للقارئ ما المقصود بكلّ هذه الأمور سنضطر لأن نخوض ولو بشكل محدود جدًا ومن خلال تمهيد قصير لعلوم المنطق وقواعد التّفكير، نبدأ فيها بشرح مختصر لمبادئ الفكر الثّلاثة، بعدها نأتي بأمثلة من السّنوات الأخيرة عن الأخطاء التي تنتج عن هذه المنظومة.

 تمهيد في المنطق ومبادئ الفكر الثّلاثة
بغضّ النّظر عن الخلاف بين المناطقة حول مكانة مبادئ الفكر الثّلاثة بين مواضيع المنطق المختلفة، منذ أن هذّب أرسطو المنطق في القرن الرّابع قبل الميلاد وحتّى يومنا هذا، إلّا أنّه لا خلاف على أنّ هذه المبادئ صحيحة، رغم محاولة البعض التّشغيب ضدّها وادّعاء عدم صلاحيّتها أو أنّها خاطئة.

 مبدأ الهُويّة
المبدأ الأوّل من مبادئ الفكر هو مبدأ الهُويّة. ويمكن تبسيطه من خلال قانون الماهيّة. أي ما يقع في جواب "ما هو". "أ" هو "أ". أو مجموع المكوّنات لـ "أ" هي بالضّرورة "أ". فالقضيّة: "الإنسان" هو "حيوان ناطق" عبارة عن تعريف مفهوم الإنسان بما يسمّى في علم المنطق بتعريف الجنس والفصل. فإذا كانت الحيوانيّة والنّاطقيّة هي المكوّنات لمفهوم إنسان، فالقضيّة صادقة.

ويمكن اختصار هذا المبدأ بالقول: إنّ القضيّة الصّادقة، هي بالضّرورة قضيّة صادقة. "أ" هو بالضّرورة "أ"، وليس "ب" أو "ج" أو "د".

مبدأ التّناقض أو عدم التّناقض
لا يمكن لقضيّة أن تكون صادقة وكاذبة في نفس الوقت. ولا يمكن لـ"أ" أن يكون أيضًا "لا-أ".

 مبدأ الثّالث المرفوع
كان هذا المبدأ من الإضافات الإسلاميّة لعلم المنطق في القرون الوسطى من حيث إبرازه كمبدأ مستقل. ومن خلاله يمكن التمييز بشكل أفضل بين مبدأ الهويّة ومبدأ التّناقض، وأيضًا التمييز بين التّناقض والتّضادّ.

يقول مبدأ الثّالث المرفوع بأنّ كلّ قضيّة هي إمّا صادقة أو كاذبة، والثالث مرفوع، أي أنّه في حال وجود التّناقض، فلا إمكان لوجود احتمال ثالث في الآن ذاته.

فالقضيّة "سقراط ميّت"، تناقضها قضيّة "سقراط حيّ". فسقراط في آن معين، إمّا ميّت وإمّا حيّ، ولا يمكن أن يكون الأمرين معًا. فإحدى القضيّتين هي بالضّرورة صادقة، ونقيضتها بالضّرورة كاذبة، وليس هناك احتمال ثالث.

الضّد في المنطق
من خلال منطق الاستنباط، هناك طرق للتّعامل مع القضايا لكي يكون الاستدلال صحيحًا وليس خاطئًا. ومن الرّوابط بين القضايا هناك مبدأ التّضادّ أو الضّدّيّة. يلزم عن التّضادّ عدم إمكانيّة أن تكون القضيّتان صادقتين في نفس الوقت، ولكن هناك إمكانيّة لارتفاع القضيّتين معًا، أي أن تكون القضيّتان كاذبتين في آنٍ واحد. فالقضيّة "زيدٌ في البيت"؛ يمكن أن تكون ضدّها القضيّة "زيدٌ في المدرسة" أو "زيدٌ في المصنع". كلّ هذه القضايا متضادّة، وتخبرنا عن مكان زيدٍ من خلال الحكم على وجوده في مكان معيّن، ولا يمكن أن تكون صادقة في آنٍ واحد، ولكن يمكن أن تكون كاذبة في آنٍ واحد، فيمكن لزيدٍ أن يكون في مكان آخر غير الأماكن المذكورة. ولكن علينا أن ننتبه لأمرٍ مهمّ، هذه القضايا ليست متناقضة، ولا يتعامل معها على أنّها كذلك.

فالقضيّة "زيدٌ في البيت"، تناقضها قضيّة "زيدٌ خارج البيت". وليست قضيّة "زيدٌ في المدرسة" أو "زيدٌ في المصنع" أو "زيدٌ رائد فضاءٍ وهو فوق القمر"! فالتّضادّ، عبارة عن استحالة اجتماع قضيّتين معًا في آنٍ واحد، مع إمكانيّة ارتفاع القضيّتين معًا، بينما التّناقض يُلزم أن يكون هناك احتمالان، أحدهما صادق، والآخر كاذب. 

 إسهامات هيغل غير الموفّقة في الجدليّة والمنطق
من أكبر المآخذ على هيغل والمدرسة الهيغليّة، تليها مدرسة ماركس، أنّهم لا يميّزون بين المتناقضات والأضداد، بل قل، تعاملوا مع المصطلحين على أنّهما مترادفان. وهذا ليس بالأمر البسيط. ولغط من هذا النّوع له تبعات ظهرت في جدليّة هيغل وبعدها في طرق استدلالهم وإظهارهم للحجج. هذ اللّغط يؤسّس لقضايا كاملة غير صادقة ولا يمكن أن تكون واقعيّة. 
وعدا عن عدم التمييز بين المتناقضات والأضداد، فإنّهم يجيزون اجتماع المتناقضات أو الأضداد (والأمر محال في الحالتين، كما ذكرنا آنفًا). فقد بنى هيغل منظومة جدليّة جديدة زعم من خلالها أنّ كلّ شيء يحمل نقيضه داخله (كانت الجدليّة قبل هيغل مجرد أداة من أدوات الاستدلال، فمن خلال الجدل وتضارب الآراء، يمكن الوصول إلى الحقيقة). عدا عن ذلك، فإنّ من خلال اجتماع المتناقضات أو الأضداد في إطار الجدليّة، يحدث التّخليق (السنتيزة).

طبعًا ما كان يُقصد باجتماع المتناقضات والأضداد عند هيغل لم يكن بالضّرورة متناقضات أو أضداد، بل في كثير من الأحيان استُخدمت هذه العبارات كتعبير لغويّ يصف صراعًا بين أطراف أو قوى، ومن ثمّ يتمّ إسقاط المصطلح المنطقيّ على العبارة نفسها في اللّغة. ومن هنا يتمّ خلط إضافيّ بين "النّقيض" كمصطلح منطقيّ، و"الضّدّ" كعبارة في اللّغة تعني الآخر، أو القوّة الأخرى.

لن نتوسّع هنا في هذا الباب، والمهمّ أن نظهر مواضع الخطأ الرئيسيّة (في نهاية هذه المقالات، سأذكر جميع المراجع والمصادر لمن يريد أن يتوسّع).

ما يهمّنا في وقتنا الحالي، هو كيف يُحدِث هذا النوعُ من اللّغط أخطاءً في المواقف عندهم، وكيف يُصبح استعمالهم للجدليّة والتّعامل مع المتناقضات والأضداد كمترادفات، عاهةً فكرية، يرتكبون من خلالها الأخطاء، أو يحاولون من خلالها تبرير مواقفهم غير الموفّقة.

 عندما يقع الاشتراكيّون في تناقض فتصبح الجدليّة طوق نجاة
كلّنا شهدنا كيف هرب النّائب أيمن عودة إلى تبرير عدم دعمه لقضايا المثليّة الجنسيّة، وصمته، وإخفاء النائبة عايدة توما سليمان من مشهد الحملة الانتخابيّة للقائمة المشتركة للكنيست الـ24، لتجنّب الدّخول في صدام جديد مع المجتمع العربيّ، بعد أزمة طحينة الأرز والتّصويت مع مشروع قانون تجريم علاج الميول المثليّة (تموز 2020)، رغم أنّ دعم الحزب والجبهة لهذه القضايا هي من لبّ برامجهم وممّا يتماشى مع مبادئ الحزب اليساريّة، فقضايا دعم حقوق المثليّين موجودة على أجندات الأحزاب اليساريّة، ليس فقط عندنا، بل في كلّ الدول الدّيمقراطيّة الغربيّة بشكل عامّ.

ففي اجتماعه الشّهير وقتها في جنوب تل أبيب (שכונת התקווה)، واجهته إحدى المشاركات تلومه على هذا الصّمت، عندها أجابها النّائب أيمن عودة بالقول (الحديث دار بالعبرية): "فكّروا بجدليّة، كونوا جدليّين، انظروا إلى الواقع من فوق الواقع وليس من داخله".

لا أحد يدري ماذا كان يقصد النّائب أيمن عودة بهذا التّبرير، ولكنّ هذا النّوع من الهروب يستخدمونه كثيرًا في كلّ مرّة يجدون أنفسهم في صدام مع الواقع، فالواقع عندهم صراع دائم بين نقائض. فبروز دعم الأحزاب اليساريّة وخصوصًا الجبهة (والتّجمع أيضًا في نفس الخانة رغم صمتهم في تلك المرحلة والهروب والتمركز في جبهة أخرى وهي الهجوم والتخوين ضدّ د. منصور عبّاس) لقضايا المثليّة الجنسيّة أحرجهم جدًّا أمام المجتمع العربيّ داخل إسرائيل، بعد أن توهّموا بأنّهم من خلال ترؤّسهم للقائمة المشتركة، أصبحوا قيادة المجتمع العربيّ وأنّهم قادرون بأن يجعلوا من مجتمعٍ كامل هجينًا لأيديولوجياتهم. لكنّ الأمر كان غير ذلك.

كانت هذه الأزمة بالذّات، من أهمّ المواقف، التي تظهر تناقضًا لا يمكن حلّه، بين مبادئ الحزب، وبين الدّارج والسّائد في المجتمع العربيّ، وهو حقيقة أنّ هذا المجتمع في معظمه مجتمعٌ محافظ. فكان الحزب بين خيارين: إما أن يكون أمينًا في موقفه لمبادئه وبرنامجه، وهذا بالفعل ما كان في تموز 2020، وإمّا أن يكون أمينًا تجاه المجتمع العربيّ في الداخل، المحافظ في أغلبيّته، والّذي هو في نفس الوقت، القاعدة الشّعبيّة للقائمة المشتركة. فآثر الصّمت والهروب من الواقع إلى "فوق" الواقع، من خلال مهزلة يسمّونها الـ"جدليّة".

 كيف يستخدم الاشتراكيّون النّقائض لتبرير المواقف؟
ليس فقط للتّمويه والهروب، ولكن الاشتراكيّين أيضًا يستخدمون الجدليّة والنّقائض في كثير من الأحيان لتبرير مواقفهم السّياسيّة. فيمكن دائمًا اختزال المواقف السّياسيّة إلى موقفين اثنين متناقضين. وعندما يتمّ حذف الأوّل، فالخيار الّذي يبقى هو الثّاني. كما كانوا في العقد الأخير، يبرّرون وقوفهم إلى جانب نظام بشّار الأسد أثناء الثّورة السّورية بقولهم: "أمريكا، رأس الإمبرياليّة العالميّة، تقف ضدّ نظام بشّار، إذًا، فالحقّ مع نظام بشّار". بهذه البساطة، هناك الموقف، وهناك نقيضه، ولا مكان لكليهما معًا. ولكن، وكما بيّنا من خلال التّمهيد في المنطق: من قال أنّ هذه المواقف هي نقائض؟ ومن قال أنّ عليك أن تكون إمّا مع بشّار أو مع الإمبرياليّة؟ لماذا هي ليست أضداد؟! لماذا لا يكون هناك احتمالاتٌ لمواقف أخرى؟ لا مع بشّار، ولا مع الإمبرياليّة؟!

نفس هذا التّبرير، بهيكليّته ونظامه، كان الاشتراكيّون الغربيّون يستخدمونه لدعم نظام ستالين ضدّ الغرب. حيث كانوا يتغاضون عن الفظائع التي ارتكبها ستالين بحقّ شعبه، رغم تواتر الأدلّة على ذلك. ويختزلون الأمر في نقيضين، إمّا أن تكون مع الإمبرياليّة وإمّا أن تكون ضدّها. 

 خلاصة القول 
هذا الخلط وعدم القدرة على التمييز بين خيارات ومواقف مختلفة، هل هي متناقضة أم متضادّة، يُحدِث عند هذه الأحزاب إشكاليّات دائمة وأزمات في إدراك الواقع، ما يجعلهم في كثيرٍ من الأحيان عبثيّين ومعدومي القدرة على الفعل السّياسيّ، فكونهم أسرى لهذه الأيديولوجيا النّافقة، ما يجعل مواقفهم يعتريها الخلل في كثير من الأحيان.

وكما ذكرنا في الأمثلة السّابقة، يبقى أكثرَ مثالٍ صارخٍ لهذا العطب في التفكير، سلوكُهم أثناء "حكومة التغيير" السّابقة، عندما مارسوا دورهم كمعارضة بشراسة وتنسيقٍ تامّ، مع رئيس المعارضة في حينه، بنيامين نتنياهو ومع بن غفير وسموتريتش على مدار عام ونصف، ليُسقطوا حكومة التّغيير، مع علمهم الكامل، أن انتخابات قادمة قد تفرز إمّا استمرارًا لحكومة التّغيير، وهي الحكومة التي يعارضونها ويعملون على إسقاطها، وإمّا حكومة مع حلفائهم في المعارضة، نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، وعندها ماذا؟ 

 المعارضة في الدّول المؤسّسة على الدّيمقراطيّة والفصل بين السّلطات، وظيفتها أن تُسقط الحكومة لكي تحكم هي وتستلم زمام الأمور في السّلطة التّنفيذيّة، وهذا ما كان يفعله نتنياهو وحلفاؤه. أمّا هم، فيمارسون دور المعارضة لمجرد المعارضة، فكان تحالفهم معه عبارة عن انبطاحٍ وذلٍّ وخنوعٍ، مقابل ماذا؟ (سخرية القدر أنّ هذه الفئة استعملت هذه العبارات ضدّ خصومها لكن دون رصيد، بل هم من أثبتوها على أنفسهم مع كامل الرّصيد) أن يصبح د. أحمد الطّيبي نائبًا لرئيس الكنيست أو أن يكون لهم عضوان في لجنة الماليّة؟ هل هذه هي أهداف المجتمع العربيّ السّياسيّة داخل إسرائيل؟! أمام كلّ الخطط والمشاريع التي أقرّتها الحكومة السّابقة في خطوة غير مسبوقة من أجل المجتمع العربيّ، ناهيك عن الممارسات الّتي من المتوقّع أن تمارسها حكومة نتنياهو- بن غفير- سموتريتش حلفاؤهم في المعارضة.

واليوم هم يعودون من جديد، لحالة التّناقض الّتي أدخلوا أنفسهم فيها دون خجلٍ أو تردّد (فلا مانع من اجتماع النّقائض كما علّمهم أستاذهم هيغل)، فبعد أن عملوا بجدّ من أجل إيصال هذه الحكومة من المعارضة إلى الحكم، وبعد أن وصفوا خصومهم السياسيّين في القائمة العربيّة الموحّدة - الّذين كانوا جزءًا من ائتلاف حكومة التّغيير- بأقذع الأوصاف، من الخيانة وما دون ذلك، ها هم اليوم، يطالبون المجتمع العربيّ بضرورة عدم محاسبتهم على الكوارث الّتي يجلبونها إليه، فيدّعون أنّ هذا ليس وقت الحساب الآن، بل هو وقت الوحدة، في مجابهة هذه الحكومة الكارثيّة!