عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - تدرك إسرائيل أكثر من غيرها أن الولايات المتحدة ليست بوارد «الانجرار» إلى حرب مع إيران، وتدرك إسرائيل أن حدود الموقف الأميركي ـ في حال فشل المفاوضات الجارية في «فيينا» ـ ليس أبعد من المزيد من العقوبات، وبهدف واحد ووحيد وهو إجبار إيران على التوقيع على اتفاق جديد حول برنامجها النووي بشروط أقل «قليلاً» من الشروط التي تطرحها إيران في هذه المحادثات، وصولاً إلى كبح الاندفاعة الإيرانية الأخيرة، والتي تميزت بتسريع التخصيب، والوقوف على حافة التصنيع العسكري كما يقول الغرب كله.
صحيح أنه لا يمكن الجزم النهائي، وصحيح أن الولايات المتحدة يمكن أن تذهب إلى حرب كهذه لأسباب داخلية أساسا، وخصوصا أن الحزب الديمقراطي لم يعد يستبشر كثيراً بنجاح إدارة بايدن في منع عودة الجمهوريين إلى «الانتصار» في الانتخابات النصفية القادمة للكونغرس، كمقدمة لعودتهم إلى البيت الأبيض في الانتخابات الكاملة القادمة.. وأن إدارة بايدن يمكن أن تذهب إلى حرب كهذه أو غيرها، في مناطق أخرى، وخصوصا باستخدام أوكرانيا في مواجهة روسيا هناك.. لكن الحرب في الحالتين كلتيهما ليست هي الحرب التي تريدها إسرائيل، وليست الأهداف الأميركية فيهما هي نفس الأهداف الاسرائيلية، ولا حتى النتائج المنتظرة منها.
وعلى كل الأحوال فالذهاب إلى حروب من هذا النوع ليس مطروحا، الآن، ولا في المدى المباشر، وهو احتمال افتراضي بحت حتى الآن، ولم يدخل إلى دائرة الواقعية السياسية بعد.
إذاً لماذا تحاول إسرائيل أن توحي بأنها تستعد للحرب، وتجهز نفسها، بل وتضع الجداول الزمنية «لتوجيه» ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية، على أقل تقدير، هذا إذا لم تتجاوز الضربة المفاعلات، وتطورت باتجاه ضرب المرافق الاستراتيجية الإيرانية؟
دعونا نبسّط الموضوع بالسؤال الآتي:
هل هناك من طائل حقيقي من وراء ضرب المفاعلات النووية؟ أو بمعنى أدق، هل ستوقف ضربة من هذا النوع البرنامج النووي الإيراني، أم أنها يمكن أن تؤدي ـ عند درجة معينة ـ إلى تسريعه، وإلى «تحرر» إيران الكامل من كل قيد باتجاه هذا التسريع؟
الولايات المتحدة، والغرب عموماً لا يرون ما تراه إسرائيل، وهم يخشون أن تؤدي ضربة من هذا النوع إلى تحول إيران إلى دولة نووية عسكرية، وليس دولة تمتلك القدرة النووية فقط.
وفي إسرائيل نفسها فإن الغالبية الساحقة في الأوساط الأمنية والعسكرية لا يرون «الأهمية الاستراتيجية» للضربة الإسرائيلية للمفاعلات النووية الإيرانية، بل إنهم أصبحوا في الواقع يسخرون من تكرار الأحاديث الاسرائيلية، وباتوا يرون هذه التهديدات كحالة إعلامية واستعراضية تافهة ومغرورة وفارغة المضمون، أيضاً. هذا كله من جهة.
أما من جهة أخرى فإن الدوائر الغربية بما فيها الأميركية، وكذلك «المحيط» العربي يجادلون في الأمر وكأن ضربة من هذا النوع لن يقابلها ردود فعل إيرانية، وتكاد كل هذه الأوساط تُجمع (دون سبب منطقي واحد) على أن ردود الأفعال الإيرانية ستكون إما صفرية، أو ليست على أي درجة من الأهمية أو الخطورة.
إذاً، لماذا تستمر إسرائيل بالإيحاء وكأن كل شيء جاهز لهذه الضربة، وأن كل ما «تبقّى» عليها هو بعض الرتوش الأخيرة؟
الجواب عن هذا السؤال هو مفتاح فهم هذه الأُحجية!
إسرائيل باتت متأكدة أن الاتفاق قادم، وأن هذا الاتفاق على الأغلب هو في جوهره نسخة عن الاتفاق السابق، وأن إيران ستقبل بما كانت قد قبلت به، وأنها في وضع يسمح لها بالإصرار عليه، وليس أمام الولايات المتحدة، وأمام الغرب إلا القبول به.
ولو كانت إسرائيل غير متأكدة تمام التأكيد من ذلك كله لما أقدمت على ما أقدمت عليه من تهديدات، ولما حاولت أن توحي بكل ما توحي به حتى الآن.
بل وأكثر من ذلك لم تتردد إسرائيل بوصف الاتفاق القادم بالاتفاق «المعيب»، ولما توعدت      وتعنترت» و»عنطزت» كما فعلت حتى الآن باعتباره اتفاقا معيبا كما وصفته.
وحتى تكتمل الصورة فإن هناك ما زال بعض الاحتمالات التي لا بد من الإشارة إليها.
فقد يعود السبب الحقيقي لهذه التهديدات الاسرائيلية إلى»الاتفاق» مع الولايات المتحدة عليها لتوظيفها في الضغط على إيران بهدف التراجع عن «شروطها» الجديدة، أو بعضها على الأقل.
وقد يعود السبب أيضاً إلى اعتبار داخلي اسرائيلي بهدف الظهور بمظهر المتشدد أكثر من نتنياهو، أو أكثر مما كان عليه موقف نتنياهو. وقد يكون السبب هو إدراك إسرائيل أن توقيع الاتفاق الجديد سيعني من بين ما يعنيه أنها «ستفقد» دورها «الأمني» كحامٍ لأنظمة الخليج من «الخطر» الإيراني، وهو أمر لا يفقدها هذه «الميزة» فقط، وإنما سيضع علامة استفهام كبيرة على «جدوى» التطبيع في أساسه، طالما أن هذا «الخطر» قد تم «تجميده» في ضوء الاتفاق الجديد.
لكن كل هذا لا يلغي أن عتاة التطرف في الائتلاف الحاكم في إسرائيل في مأزق كبير.
فهم يعرفون أن البرنامج النووي الإيراني لن ينتهي في ضربة عسكرية واحدة، ولا في عشرات الضربات الجوية.
وهم يعرفون أكثر وقبل غيرهم أن إيران لن «تتفرّج» على ضرب مفاعلاتها ومرافقها الحيوية، بل ويعرفون حق المعرفة أن إيران لديها من الأوراق ـ إذا ما تم تهديد نظامها السياسي ما يقلب الطاولة في كامل الإقليم، وما يمكن أن يؤدي إلى أزمة عالمية في مجال الطاقة، وإلى إحداث دمار كبير في خطوط إمداد هذه الطاقة، وربما في مرافق إنتاجها في الخليج كله.
والأهم من ذلك كله فليس هناك لدى هؤلاء من عتاة التطرف في إسرائيل ضمانات من أحد بحماية المرافق الحيوية الإسرائيلية. مأزق إسرائيل الحقيقي أن حروبها أصبحت مكلفة وخطرة وليست مضمونة النتائج، وهذه النتيجة بالذات ليست أقل شأناً من الردع النووي الذي تسعى للبقاء منفردة به.