نابلس - طلال عوكل - النجاح الإخباري - الوضع الجيوسياسي والعسكري في الشرق الأوسط يتغير بسرعة نحو إعطاء المزيد من المؤشرات، على ضعف وتراجع دور الولايات المتحدة التي تكافح دون جدوى لإبقاء هيمنتها على النظام العالمي.
في سلّم أولويات إدارة بايدن الديمقراطية، تقف الصين في المقدمة، ثم روسيا ثم إيران، وفي ظل مناخ دولي عام، سلبي تجاه السياسة الأميركية، خصوصاً إبان مرحلة الرئيس السابق دونالد ترامب. هذا ليس كل شيء على طاولة الرئيس الأميركي، الذي يواجه تطوراً متزايداً لليسار في حزبه، بالإضافة إلى معالجة التحريض والعنصرية، والانقسام، أيضاً، الذي تعمق خلال مرحلة الرئاسة السابقة، فضلاً عن الحاجة لترميم العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، وفي إطار حلف «الناتو».
إزاء التعهدات الرئاسية بشأن ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ثمة في الداخل الأميركي ما يفرض على إدارة بايدن التعامل بطريقة مختلفة لا تبلغ حد القدرة على فتح المسار السياسي على أساس رؤية الدولتين، ولكن ثمة حراكات اجتماعية وسياسية وحزبية تفرض على الإدارة، إظهار قدر من العدالة تجاه الفلسطينيين وإن كان ذلك من خلال إشارات وإجراءات ذات طابع إنساني.
لا شك في أن إدارة بايدن ستواصل الالتزام بتقديم كل الدعم لحماية إسرائيل، ودوام تفوقها، ولكن هذا لم يعد يخفي وجود خلافات، مع حكومات اليمين المتطرف في إسرائيل.
ثمة خلاف حول كيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني، ومحاولات إسرائيل المستمرة، لإفشال مفاوضات فيينا، والتصرف بصورة أحادية وخلافات أخرى، حول سلوك إسرائيل المخالف للقانون الدولي سواء في ملف الاستيطان أو هدم البيوت، أو السلوك العنصري إزاء مواطنيها الفلسطينيين، وبالتأكيد حول مستقبل عملية السلام ورؤية الدولتين.
وقد يمتد هذا الخلاف، إلى الدور الإسرائيلي في ملف أزمة سد النهضة الذي تتصاعد بشأنه التوترات، والتي قد تنفجر في وقت ليس بعيداً. ثمة من بدأ يدعو في الولايات المتحدة، إلى تطبيع العلاقات الأميركية الإسرائيلية، بمعنى أن تتخلى الولايات المتحدة عن سياسة الخصوصية مع إسرائيل، لتأخذ العلاقة شكل وآليات العلاقة مع أي دولة حليفة للولايات المتحدة.
ربما تؤدي التطورات الجارية على المستويين الإقليمي والدولي، إلى أن تركز الولايات المتحدة على مصالحها حتى لو تعارضت مع المصالح الإسرائيلية، فبالرغم من المطالبات الأميركية لإسرائيل بتخفيض مستوى تعاونها وعلاقاتها مع الصين، إلا أن حكومة نتنياهو ومن بعده «حكومة الرأسين» تجاهلت تلك المطالبات. اللوحة العامة للشرق الأوسط تشير إلى انسحاب أميركي متدرج ومتلاحق من المنطقة، فلقد بدأت القوات الأميركية انسحابها من أفغانستان بالرغم من فشل الاتفاقيات مع حركة طالبان، وسينتهي هذا الانسحاب في نهاية آب القادم.
قبل عشرين عاماً، بادرت إدارة بوش الابن إلى غزو أفغانستان وأطاحت بحكم طالبان، ونصّبت حكومة ورئيساً، بأمل أن يؤدي ذلك إلى طي صفحة طالبان.
خاضت القوات الأميركية، والقوات الحليفة والحكومة الأفغانية حرباً ضروساً ضد طالبان، وحين فشلت لم يكن أمامها سوى الانسحاب، وتقديم دعم كبير للحكومة الأفغانية لمواجهة الوضع الداخلي، وسحب الذرائع من طالبان التي تدّعي أنها تقاتل لتحرير البلاد من الغزو الأجنبي.
اليوم فيما تواصل الولايات المتحدة سحب قواتها من أفغانستان، تشير الأحداث إلى أن طالبان تسيطر على 80% من الأرض، خصوصاً المناطق الحدودية مع طاجيكستان وإيران ما يثير قلق الجيران القريبين والبعيدين بما في ذلك روسيا. حين أعلن بايدن قراره الانسحاب من أفغانستان كان قد قال إن القوات الأميركية ستكون قريبة وإنها ستقوم بما يلزم عند الضرورة لكنه اليوم يناشد المجتمع الدولي لممارسة ضغط فعال على طالبان، لفتح العملية السياسية من خلال الوساطات والحوار.
في الواقع ليس لدى طالبان رؤية لعملية سياسية، يمكن أن تؤدي إلى حلول وسط مع الحكومة الرسمية الأفغانية، وإنما هي تسعى لاسترداد سلطتها التي انتزعتها منها القوات الأميركية والأجنبية، ما يستدعي مواصلة القتال من أجل الإطاحة بالحكومة.
البلد الثاني الذي تعرض للغزو الأميركي بعد أفغانستان كان العراق الذي لا تزال تتواجد على أرضه قوات عسكرية، وكان من تداعيات ذلك الغزو، إنتاج دولة فاشلة، وفاسدة. الدولة النفطية الغنية تعاني من كل شيء، من الفقر، ومن عدم الاستقرار الاجتماعي والأمني والاقتصادي، ويعاني العراق من دمار البنية التحتية، وعدم القدرة حتى على معالجة أزمة الطاقة الكهربائية والنفطية وعشرات المليارات من الديون الخارجية.
الدولة مستباحة من قبل الفاسدين، ومن قبل الطوائف المتناحرة ومستباحة من قبل الميليشيات، وتشهد صراعاً محموماً على النفوذ بين إيران والولايات المتحدة، وفي شمالها تتواصل العمليات العسكرية التركية بذريعة مقاومة حزب العمال الكردستاني لاحتجاجات لا تتوقف في الشارع، وكذلك الاغتيالات والاعتقالات، ما يعطل مؤسسات الدولة، بما في ذلك البرلمان المنتخب، ويعطل العملية الانتخابية، المظهر الوحيد الزائف للديمقراطية الشكلية.
بموازاة ما يجري في أفغانستان، وما توفره الاعتداءات الإسرائيلية على منشآت إيرانية، تتصاعد حمّى الانتقام من القوات الأميركية في العراق، حيث تتعرض القواعد الأميركية في أربيل وعين الأسد وعلى الحدود العراقية السورية وفي دير الزور إلى مزيد من الهجمات الصاروخية.
إن استمرار هذا الوضع سيضع الرئيس بايدن أمام قرار بسحب القوات الأميركية، التي يشكل وجودها في الأساس ضمانة لإبعاد العراق عن التأثير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في سورية الحال ليس أفضل كثيراً بالنسبة للوجود العسكري الأميركي، في حضور روسيا صاحبة اليد العليا بالإضافة إلى إيران.
حين قامت أميركا بغزو أفغانستان والعراق، كانت إدارة بوش قد قررت أن الإرهاب هو العدو الأول، لكن الدنيا تغيّرت وأصبحت الصين وروسيا هما العدو الأول.
تمتد المتغيرات في المشهد الشرق أوسطي إلى تفكيك تحالفات ونشوء أخرى، فالسعودية تبتعد عن الإمارات، ومصر تقترب من قطر وتركيا، والأوضاع والتحالفات لا تزال غير مستقرة وقابلة لمزيد من التغييرات التي تشهد على تراجع الوجود والدور الأميركي في المنطقة وعلى المستوى الدولي.