نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - لا يبدو أن المشهد الخارجي سيتغير كثيراً أو أن ثمة دفعة جديدة في الوضع الساكن في المنطقة. والآمال التي عقدت بوهن على خسارة ترامب وصعود بايدن لم تكن إلا ابتهاجاً مبكراً بفرح لم يتحقق. فليس ثمة أي إشارة تقول إن الرجل قد يبذل جهداً من أجل تغيير واقع السياسة الأميركية كما صنعها ترامب في المنطقة. كما أن فرص حدوث اختراق في عملية السلام الميتة منذ سنوات ليست قائمة، ليس بسبب تعثر تشكيل حكومة إسرائيلية بعد ثلاثة انتخابات متعاقبة، بل لأن أي حكومة إسرائيلية قد تأتي بعد ذلك لن يكون في أجندتها سوى الحفاظ على الوضع الراهن بوصفه تركة مقدسة.
ربما أمام كل ذلك كان الخيار الفلسطيني بالتوجه داخلياً هو أفضل ما يمكن لنا أن نعمل عليه. بكلمة أخرى البحث في شأن ترتيب الوضع الداخلي الفلسطيني. كان القرار صائباً وربما حمل في طياته فهماً دقيقياً لعبارة «اللحظة الناضجة». هذه هي اللحظة الناضجة لإحداث اختراق في ملف ظل معلقاً لقرابة عقد ونصف العقد من الزمن. وبحسبة صغيرة، فإن عمر الانقسام أكثر من ضعف عمر السلطة. يبدو هذا مقلقاً إذا كنا نسعى فعلاً لإقامة دولة فلسطينية، أو على الأقل نعمل على تغيير واقعنا تجاه استقلال واقعنا عن الاحتلال. أمام انغلاق كل الآفاق المختلقة، وانسداد كل الطرق باتجاهات الأرض الأربعة، لم يكن أمامنا إلا النظر إلى وضعنا الداخلي. هل كنا بحاجة لكل هذا الانغلاق حتى ننتبه إلى ضرورة ترتيب البيت الداخلي. أظن دائماً كانت ثمة إشارات إلى هذه الضرورة، ولكن ما حدث من تراجع في كل الانفراجات التي كانت مرتقبة هو أن ثمة المزيد من الجهد والطاقة التي يمكن بذلهما في مكان ربما يكون أكثر فائدة. لذا فإنه بمجرد تحريك الملف دارت العجلة بطريقة ملفتة، وأصدرت صريراً مطمئناً بأن ثمة ما يمكن أن يتحرك. اللحظة الناضجة كما هو المنطق تفرض نفسها، فأنت فلا يمكن لك أن تغفل حبة التفاح الأكثر نضجاً على الشجرة. من هنا، فإن التركيز الفلسطيني الداخلي على ملف المصالحة ليس له ما يبرره فقط، بل إنه تركيز الممكن والمضطر في آن.
هذا يجب أن يقودنا إلى ضرورة التذكير بضرورة الاستمرار في استثمار ما حدث من أجل إحداث اختراق حقيقي وفعلي. لا يجب أن يكون الأمر مجرد ردة فعل لحظة يمكن أن تنتهي بمجرد تفكك السياق «الآسر» لكل الفرص الأخرى، بل يجب التفكير جدياً في كيف يكون هذا الطريق مستمراً حتى لو تم حدوث انفراج في الملفات الأخرى، مثل ملف عملية السلام. ومع أن هذا لا يبدو ممكناً أو محتملاً في الأفق، إلا أن تذكير أنفسنا بأن غاية تحقيق المصالحة هي الأسمى يجب أن تظل حاضرة، لأنه فقط يمكن لنا ونحن نشق الطرق الأخرى أن ننجح.
ربما كان أحد أبرز أخطاء «أوسلو» أنها أنتجت سياقاً ارتهنت فيه السلطة للسياق الخارجي. صحيح أن السلطة كانت تعبيراً عن إرادة سياسة فلسطينية حرة، ولكن اتكال السلطة على الدعم الدولي والخارجي، وارتهان تطور ونمو السلطة بالتقدم في ملف التفاوض مع العدو، جعلا آفاق تطور السلطة ضعيفة. وهذه حقيقة لا يجب أن نغفلها إذا أردنا أن نبحث عن المستقبل الأفضل. وعليه فقد ظلت السلطة تعاني من هذه الاتكالية المالية التي عصفت بها أمام أول محنة مواجهة مع الاحتلال. فالجباية تعتمد بالأساس على المقاصة والمشاريع التطويرية، وحتى بعض الرواتب وبعض قطاع الخدمات يعتمد على التمويل الخارجي.
بالمقابل، فإن القوى السياسية الأخرى التي تحب أن تسمّى معارضة ساهمت بطريقة أكثر فظاعة في تطويق تطوير النظام السياسي. فـ»حماس» مثلاً بانقلابها قبل خمسة عشر عاماً قتلت فرصة تحرر السلطة من الاتكالية على المجتمع الدولي. مهم أن نتذكر أن السلطة ذهبت لانتخابات ضاربة بعرض الحائط كل التحذيرات عام 2006، وأهم من ذلك ذهبت لانتخابات ولم تزوّرها، وخسر حزب الرئيس أي حركة «فتح» وقام الرئيس بتكليف «حماس» بقيادة الحكومة. ووقف العالم وهاج وماج وغضبت إسرائيل، لكن القيادة الفلسطينية ظلت ثابتة على المواقف. كان يمكن لو لم يحدث الانقلاب وينتج هذا الانقسام الأسود أن تتحرر السلطة فعلياً من كل القيود التي فرضتها عليها «أوسلو». لكن ما قامت به «حماس» قتل كل الفرص الممكنة نحو جعل الديمقراطية طريقة تعامل داخلية بيننا.
هذا حدث وبالتالي عدنا للمربع الأول. الآن لا تبدو السياقات مختلفة. ثمة انسداد واضح وثمة طرق مغلقة، ولا يوجد إلا طريق واحد. وحدنا نمتلك السير فيه ويمكن لنا أن نتحدى كل العالم ونفرض عليه طريقة للتعامل معنا. وكل هذا يتطلب أن نتفاهم فيما بيننا حول ماذا نريد. أول شيء يجب الانتباه له أن الانتخابات القادمة يجب ألا تكون طريقة لتحديد من الفائز في المصارعة المستمرة منذ خمسة عشر عاماً. لأنه لو تم النظر للأمر هكذا فلن تكون إلا وسيلة احتراب أخرى. وثاني هذه الملاحظات أن مفهوم التوافق يجب أن يسود مهما كانت نتائج الانتخابات. إن حركة تحرر تسعى لاسترداد بلادها المسلوبة لا تعيش على التنافس بين مكوناتها، بل على مبدأ التفاهم والتوافق.
مرة أخرى، فإن ثمة فرصة، ونحن من يحدد هل سنستثمر هذه الفرصة أم سندعها تمر وتكون عقبة أخرى في حياتنا المليئة بالكوارث والمآسي. العالم لن يلتفت لنا كثيراً لأن أحداً لن يعطينا أرضنا، أو يقاتل ويحارب ويخسر إسرائيل من أجلنا. فقط نحن من نستطيع أن نفعل ذلك ولا خيار أمامنا إلا أن نفعل. غير ذلك فإن الأمر مجرد فصل جديد من مسرحية مألوفة.