عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - بطبيعة الحال ليس لديّ نية التوقع على طريقة ماغي فرح أو ميشيل الحايك، لأن التوقع على طريقتهما موهبة لا أمتلكها، ولا أرغب بامتلاكها، أو الادعاء بسخافتها أو سذاجتها، مع أنني لا أجد حرجاً بالمطلق من الاعتراف بأنني أتابعها بهذا القدر او ذاك، وخصوصا في السنوات القليلة الماضية.

كيف يستوي الأمر هنا؟ ألاّ يوجد تناقض واضح بين الدعوة إلى المنهج العلمي في التفكير وبين هذا الاعتراف؟!

الجواب: ليس بالضرورة.

فكوني مثل كثيرين آخرين نتابع مثل تلك التوقعات، والتي هي اقرب إلى التنجيم في الشكل والمظهر، ولكنها اقرب إلى القراءة «السياسية» في الجوهر، فهذا لا يعني الإيمان والقناعة بها والأمر كله يتعلق، كما أعتقد، بظاهرة القلق لدى بني الإنسان، وعدم اليقين بما ينتظرنا في المستقبل.

لدى خبراء علم النفس أطروحات اكثر من كافية حول ظاهرة القلق على مستوى الأفراد والمجموعات، وصولا الى الجماعات، حيث يبدأ هنا حقل علم النفس الاجتماعي بكافة تشعباته ودهاليزه المركبة.

ولكي أريح القراء هنا فإن إيراد بعض المفارقات ربما يساعد على ذلك.

هناك شخصيات سياسية ومنها من كانت تتربع على رأس الهرم السياسي في امبراطوريات كبيرة، عرفت باللجوء إلى العرّافين والعرّافات «لاستقراء» أحداث المستقبل، بمن فيهم قيادات ورؤساء للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق وشخصيات اجتماعية وثقافية وفنية ذات شهرة عالمية طاغية.

لهذا فإن القلق حول المستقبل، أو خفوت زاوية اليقين في مشهدية هذا المستقبل يمكن أن تفسر لنا مثل هذا «اللجوء» الذي اشرنا إليه.

العام 2020 كان، إذا جاز لي اعتبار أن العام قد انتهى، بامتياز هو عام تدمير معادلة التوقعات، والإجهاز الكامل على رتابتها، وعلى الجزء الأكبر من عناوينها التنجيمية و»السياسية» المغلفة بالتنجيم. مقابل هذا القلق وعدم اليقين يلجأ بعض بني البشر إلى ملاذات أخرى لعل من اهم ما بينها التواكل والاتكالية السلبية والتي تفضي على عدم اليقين بالقدرة على التغيير والتأثير في مسار الأحداث ووجهتها.

يتفرع عن هذه الذهنية التي تنحدر من استسلام العقل «للمجهول» واللامبالاة التي تتحول إلى تسليم مقاليد الأمور والحياة الى هذا المجهول بالذات، بحيث يتم في الواقع ازدراء الأفعال والمبادرات الايجابية، والتقليل من شأن ما يمكن أن تؤدي إليه.

وهذه العملية بالذات «الاستسلام للمجهول وسيطرة اللامبالاة» تنمو وتتعزز في المحيط الاجتماعي الذي تسيطر عليه الأفكار الغيبية ويتصف بانتشار الجهل وعلاقات التبعية والاستبداد.

وهناك مقابل عقل الخنوع والاستسلام واللامبالاة السلبية توجد لامبالاة متمردة.

اللامبالاة المتمردة على النقيض من الاستسلام، وهي تلك التي تتعلق بعدم التوقف عند الصعاب، وعدم الاستسلام لنتائج الفشل، وتجاوز المشكلات نحو مزيد من العمل المثابر من اجل النجاح.

أي ان حالة القلق هنا هي حالة إيجابية، وهي حافز للإنجاز. تحدث هذه الحالة عند طيف واسع من النخب وخصوصاً الثقافية منها. يشعر الكثيرون من المبدعين ـ على سبيل المثال ـ بالتحدي الكبير الذي رسم لوحة ناجحة، أو كتابة قصيدة مؤثرة، أو حتى إنجاز رواية كبيرة ومهمة.

لامبالاة تخطّي الصعاب والانشداد الى النجاح، وقهر الفشل، وتحدي النفس، تعتبر أرقى أشكال الوعي المستند للثقة بالمستقبل، وعدم الخنوع لأثقال الحاضر، وهي كذلك فردية ومجموعاتية وجماعية واجتماعية. هناك في الواقع أشكال متعددة في التعامل مع مسألة القلق ومنها السخرية الهادفة كما هي السوداء القاتمة، على طريقة أن «الشيء الجديد في العام القادم سيكون أنه ومنذ هذه اللحظة سيكون قد مرّ عام كامل».

نعود، الآن، إلى قلقنا، وإلى لامبالاتنا، وإلى توقعاتنا!

بالرغم من أنني أثق بقدرات شعبنا ثقة عالية، وبالرغم من أن هذا الشعب أثبت على مر السنين بأنه يزخر بالحيوية والهمّة الوطنية، وأنه كان على قدر الرهان والمسؤولية، وبالرغم من بطولاته العنقائية وتضحياته التي تدعو إلى الفخر والاعتزاز إلا إنني، وبسبب تغييب الشعب الفلسطيني عن دائرة المشاركة وصنع القرار لا أرى أننا سنخرج  وسنخرج بلادنا وقضيتنا من المأزق الذي نعيش.

لماذا؟

لأننا ببساطة لم نراجع ولم نتراجع. لم نراجع مسيرة تعثرت ومسارا قد تعطل بالكامل.

هل راجعت «فتح» وهي ما زالت تقود الشعب الفلسطيني، وهي صاحبة القرار الأول عن حاضره وعن مستقبله المرئي كله ولو لمرة واحدة مراجعة جادة مقنعة وقادرة على رسم معالم الطريق الجديد؟

هل تخلّت حركة حماس والتي تتحكم بقطاع غزة وتقبض على أنفاسه ولو لقيد أُنملة واحدة عن هذا المسار المدمّر؟

ثم ماذا تفعل البقية الباقية؟ هل يوجد في قاموسها شيء اسمه مراجعة؟ أليست أيديولوجيتها المقدسة هي أيديولوجية المراوحة والانتظار؟

هل يوجد، اليوم، أي رابط يذكر بين هويتها الفكرية ودورها الاجتماعي، ناهيكم عن دورها السياسي؟

لماذا صمت القبور عن منع «الكريسماس»، والصوت العالي المدوّي عن أيّ هفوة للسلطة الوطنية؟

أين هو الخط الثالث، وأين هو المجتمع المدني من الفعل الحقيقي، ومن التحشيد المؤثر والقادر على إسناد ودعم وتعزيز المنعة والصمود والمساهمة بنشر الوعي الديمقراطي وتحويله إلى مبادرات وطنية قادرة على التنظيم والتأطير وإحداث الفرق والتأثير والتغيير؟ ما نراه ليس سوى شذرات، وما نلحظه ليس سوى اجترار للسابق، وبكائيات سياسية لا طائل من ورائها.

ولهذا ليس ثمة جديد حقيقي في العام الجديد.

ليس لدينا نموذج ديمقراطي حقيقي للحكم في هيئة السلطة الوطنية، وليس لدينا مؤسسات دولة القانون حتى الآن، ولدينا حكم كارثي ثيوقراطي في القطاع مغلّف ببعض البراغماتيات الاضطرارية التكتيكية. من أين سيأتي التغيير ومن هي القوى التي تتحمّل مسؤولية هذه المهمة العظيمة والنبيلة؟

الفكر متكلّس، والسياسة تعيش ليومها وعلى يومها، والأدوات هرمت وتخشّبت، والصعوبات من كل الأنواع تحيط بالبلاد والعباد.

يغيب الحوار الوطني ويتقدم التصيّد وتستفحل المناكفة والشماتة، تغيب لغة العقل وتتصدر الغرائزية السياسية والقبلية الحزبية.

عندما تتسمّر «فتح»، وتحجم عن المراجعة الاستراتيجية الشاملة، وعندما يتوزع اليسار بين مدينتين، ويتنازل عن هويته الفكرية والسياسية، وعندما «تقرقط» (حماس) بالقطاع حتى لو مات سكانه جوعاً، وعندما يتحول المجتمع المدني في غالبيته الساحقة إلى نشطاء فيسبوكيين فمن أين سيأتي التغيير، وكيف لنا الخروج من هذا المأزق؟

الحلول موجودة ومتاحة وممكنة، ولكن إرادة الإقدام عليها مفقودة، والى ان تتوفر هذه الإرادة فليس متوقعاً في العام الجديد ان يحدث ما ينتظره الناس وما يأملونه وما يراهنون عليه.

لهذا فبعد عام من الآن، سيكون قد مرّ عام بالكامل.. إذا لم نتحرك ونبادر وننبري بكل طاقتنا للتغيير.