أنور رجب - النجاح الإخباري - أثارت اتفاقية التطبيع بين دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة ودولة الامارات ومملكة البحرين من جهة أخرى العديد من الأسئلة والتكهنات وطرحت قضايا بعينها للنقاش، خاصة في ظل تواتر الحديث عن تتابع هذه الموجة من التطبيع لتضم دولاً عربية أخرى في ظل مؤشرات وإشارات تقود إلى قناعة بأن عملية التتابع هذه قادمة لا محالة، وقد يختلف التوقيت وعملية الإخراج وشكل وحجم واستحقاقات وثمن هذا التطبيع بين دولة وأخرى. وكان الاتفاق الاماراتي البحريني مع دولة الاحتلال قد سلط الضوء على قضية في غاية الأهمية أثارت فلسطينياً وعربياً نقاشاً واسعاً وحازت على اهتمام ومتابعة على مستويات عدة رسمياً وشعبياً من منطلقات ولغايات مختلفة، وهي موقف وردود فعل الشعوب العربية على عملية التطبيع الجارية، والبحث في إجابات عن الاسئلة ذات علاقة بهذا الأمر، مثل: لماذا كانت ردود الفعل الشعبية العربية ضعيفة وباهتة وليست بمستوى موقع القضية الفلسطينية في عقل وقلب المواطن العربي؟ وهل هذا الضعف ناتج عن تغير في موقف المواطن العربي من القضية الفلسطينية، أم هناك أسباب أخرى ذاتية وموضوعية؟ وهل يمكن الفصل بين موقف الشعوب العربية وموقف حكامها الرسميين، وكيف؟ وكيف لنا أن نعمل على معالجة ذلك الخلل وإعادة الاعتبار لأولوية القضية الفلسطينية في ذهن وثقافة وسلوك المواطن العربي؟

تسعى هذه المقالة لإيجاد أجوبة موضوعية وعقلانية للأسئلة المثارة، والبحث عن مقاربات من شأنها أن تشكل أرضية للانطلاق نحو فهم أعمق لمكانيزمات العلاقة بين القضية الفلسطينية والمجتمعات العربية، تنسجم مع الظروف وتراعي المتغيرات والمستجدات التي طالت بلدانها وفرضت أولويات قاسية لدى المواطن العربي وبعض الأنظمة.

بداية من المهم أن نميز بين ردود الفعل الشعبية الباهتة في البلدان العربية رداً على الاتفاق الاماراتي – البحريني للتطبيع مع اسرائيل وبين الموقف من القضية الفلسطينية وموقعها في عقل وقلب المواطن العربي، فردود الفعل تلك ليست بالضرورة أن نرى فيها تعبيراً عن الموقف من القضية والحقوق الفلسطينية، وإنما انعكاساً لما آلت اليه الأوضاع وما حملته أحداث الخريف العربي من كوارث وأزمات للبلاد العربية كان ضحيتها الأولى المواطن العربي الذي دفع فاتورتها من استحقاقاته الحياتية والمعيشية وحقوقه السياسية، ناهيك عما عانته وتعانيه معظم البلدان العربية من موجات متلاحقة من العنف والإرهاب وعدم الاستقرار السياسي، وهو ما فرض انشغال وانغماس الشعوب العربية أكثر في همومها وقضاياها المعقدة والمركبة وتغير أولويات نشطائها ونخبها، هذا بالإضافة إلى أن معظم الحكومات العربية لاسيما التي تسير في ركب التطبيع ليست واحة للديمقراطية يستطيع المواطن فيها أن يعبر عن آرائه بحرية دون وجل أو خوف.

يقودنا ذلك إلى ضرورة التمييز أيضاً بين موقف الشعوب العربية من اسرائيل ومواقف الأنظمة الحاكمة، وفي هذه المسألة يمكن الاستدلال بمواقف الشعبين المصري والأردني من اسرائيل الرافض لأي شكل من أشكال التقارب والتطبيع معها، والذي دفع الساسة والنخب الاسرائيلية لوصف السلام معهما بالسلام البارد، وهو ما يقود أيضاً إلى أهمية التمييز بين مواقف الأنظمة نفسها من قضية العلاقة مع إسرائيل وهي مواقف متباينة سواء من حيث المستوى أو من حيث الفكرة أو حتى الدوافع والمبررات، والأهم هو موقع القضية والحقوق الفلسطينية والموقف منها في الإطار العام لهذه العلاقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التصنيف لا يعني أنه مقبول فلسطينياً أو أخلاقياً، فكل أشكال ومستويات التطبيع مرفوضة بالمجمل وهي بأبسط المعايير مخالفة للمبادرة العربية للسلام، وبيت القصيد هنا هو أهمية ألا نضع المواقف العربية في سلة واحدة، فالمبدأ واحد ولكن ما يجب أن يختلف هو المقاربات والمعالجات.

الأمر الآخر والذي يجب أن يحظى بقدر كبير من الاهتمام والنقاش من وجهة نظرنا، هو الاستراتيجية الممنهجة والمنظمة التي اتبعتها دولة الاحتلال لاختراق العقل والثقافة العربية ومحاولة التأثير في مضامينها، من خلال بث رواية مضادة للرواية الفلسطينية بهدف التشكيك بها وزعزعة أركانها، وتغيير مفرداتها وسياقاتها التاريخية والدينية، وقد سخرت في سبيل ذلك امكانيات وقدرات بشرية ومالية وتكنولوجية ضخمة، واستحدثت وطورت دوائر متخصصة سواء في وزارة الخارجية أو مؤسساتها الأمنية والإعلامية والثقافية لاسيما في مجال الدبلوماسية الرقمية، متخذة من وسائل التواصل الاجتماعي ساحة رئيسية لنشاطها وفعلها المركز والموجه للعالم العربي. وفي نفس السياق وبنفس التساوق فإن الدول التي قررت مسبقاً السير قدماً في طريق التطبيع ضمن الرؤية الأمريكية – الاسرائيلية قد عمدت مبكراً لتوظيف قدراتها وإمكانياتها في خدمة تلك الرواية، وفتحت لها منافذ متعددة لاسيما في مجال الإعلام بكافة أشكاله وأنواعه، وأطلقت العنان لجيوشها الإلكترونية ولشخصيات ثقافية وسياسية ومواطنين ورجال دين تم إعدادهم مسبقاً للهجوم والإساءة للشعب الفلسطيني وقيادته ورموزه ونشر الإشاعات والاتهامات وتزوير الحقائق وتلفيق الاكاذيب، وفي نفس الوقت التطبيل والتسويق للعلاقة مع اسرائيل بوصفها حامية الديار وجالبة لمستقبل يعمه السلام والإزدهار. وبالرغم من ذلك كله فإن محاولة الاختراق هذه لم تحقق نتائج ملموسة تتناسب مع ما بذلوه من جهد خارق وما وفروه من قدرات ضخمة، وربما نجد فيما كشفه التقرير الذي صدر عن وزارة الشؤون الاستراتيجية الاسرائيلية ما يؤكد ما ذهبنا إليه، حيث جاء في التقرير أن 90% من الخطاب العربي على مواقع التواصل الاجتماعي حول العلاقة مع اسرائيل كان سلبياً، وينصح معدو التقرير بأنه يجب على اسرائيل تعزيز حملة التوعية على شبكات التواصل الاجتماعي العربية، مع التركيز على دول الخليج والدول الأخرى التي توقع اتفاقيات معها.

كل ما سبق يفرض علينا إجراء مراجعة جادة لأدوات وآليات ومضمون ومستوى خطابنا الموجه للشعوب العربية أولاً وللعالم برمته ثانياً، خاصة في مجال الاعلام الرقمي بكافة أدواته، واستثمار كافة خصائصه وتوظيفها في مواجهة الرواية المضادة وتفنيدها وكشف زيفها وهدم أركانها، وهذا ليس من باب جلد الذات، وإنما بهدف التقويم وإعادة الأمور إلى نصابها، نعم لدينا أوجه قصور متعددة وعلى جميع المستويات الرسمية والأهلية والنقابية، لاسيما في ملاحقة وتفنيد الرواية المضادة التي انطلقت مبكراً بهدف خلق حالة من التشتيت والإرباك في ما يختزنه العقل العربي والثقافة العربية من قناعة راسخة بعدالة القضية الفلسطينية والرفض الفطري لوجود وقبول دولة الاحتلال. وفي هذا الإطار نجد أنه من المهم الإشارة إلى الندوة التي نظمها معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي مساء الأحد، الموافق 27/09/2020، تحت عنوان "قادة رأي الإعلام الاجتماعي في مواجهة التطبيع"، شارك فيها حشد واسع من قادة الرأي العام واعلاميين وصحفيين وأكاديميين وباحثين عرب يمثلون الامارات العربية المتحدة ومصر والجزائر والمغرب وليبيا والأردن وفلسطين، كنموذج لما يمكن العمل عليه لمعالجة هذه القضية الهامة والحساسة، لا سيما وان التوصيات التي خرجت بها الندوة تقدم مقاربات مهمة في هذا الشأن، من المهم دراستها بعمق وايجاد آليات واضحة للعمل على تنفيذها، ومن ضمن هذه التوصيات:

تشكيل الهيئة العربية لمقاومة التطبيع بحيث تضم مختلف القطاعات العربية الإعلامية والثقافية والسياسية والاجتماعية.

إنشاء شبكة إلكترونية للمدونين العرب على منصات التواصل الاجتماعي "الشبكة العربية ضد التطبيع" بلغات عدة.

تشكيل هيئة عربية خاصة لترجمة المقالات والتقارير الصحفية والإعلامية الإسرائيلية التي تروج لاستهداف الوعي العربي الجمعي.

تنظيم مؤتمرات وندوات متعدد ومستمرة في الدول العربية لشرح مخاطر التطبيع الإعلامي والثقافي على الوعي العربي وعلى الأمن القومي والأمن الوطني لجميع الدول العربية.

إنتاج وسائط مصورة (فيديوهات) بمحتوى فلسطيني غني ومعبر، تشرح تاريخ الشعب الفلسطيني وصموده ومقاومته بلغات عدة.

مقاطعة وسائل الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي التي تروج للتطبيع وكذلك البنوك والشركات التي تعقد اتفاقيات تطبيعية مع مؤسسات دولة الاحتلال.

العمل على تهيئة الفضاءات الإجتماعية العربية من خلال وسائل الإعلام لإصدار قوانين تجرّم التطبيع مع الاحتلال.

ونضيف إليها وعلى المستوى الفلسطيني حصراً أهمية تعزيز دور الدبلوماسية الرقمية الرسمية والشعبية، ورصد وتوفير الامكانيات البشرية والتقنية لتحقيق نتائج متقدمة في هذا المجال الهام والحيوي الذي توليه دول الاحتلال أهمية وأولوية متقدمة في اطار معركة الرواية والتطبيع.