علاء الدين أبو زينة - النجاح الإخباري - كان قرار الجامعة العربية وقف التعاملات مع غواتيمالا عقاباً على نقل سفارتها إلى القدس، مضحكاً مبكياً حقاً. فالعالم كله يعرف أن غواتيمالا لا علاقة مباشرة لها بالمصائب الفلسطينية والعربية، ولا هي التي تديم الاحتلال الصهيوني للقدس وفلسطين. ومن الواضح أن صانع القرار الغواتيمالي أجرى حساباتٍ ما، فوجد أن له مصلحة في مجاملة أميركا -أو حتى ربما الكيان وحده. ولذلك، أثار قرار معاقبة غواتيمالا والصمت عن الولايات المتحدة، أصل البلاء، ردود فعل ساخرة من الناس الذين تذكر معظمهم القول السائر: "لم يَقدر على الحمار، فتشاطر على البردعة"!
كان قرار الجامعة العربية سيئ المشورة بوضوح. ولا أدري كيف لم يقترح أحد فيها عدم اتخاذ هذه الخطوة المضحكة جملة وتفصيلاً. فهي تجلب الانتباه فقط إلى عدم توازن الهيئة التي تمثل مئات ملايين العرب التي تتصرف بمنطق "التفشيش". وقبل أن تلام دولة لا تربطها بنا جغرافيا ولا عاطفة في أميركا الوسطى على مجاملتها للكيان، فلتحاسب الجامعة العربية نفسها على ترك القدس تحت الاحتلال أولاً، ناهيك عن التواصل العربي غير المنقطع مع الكيان، من فوق الطاولة ومن تحتها. كما لم يقترح أحد هناك معاقبة الولايات المتحدة، التي تمد الاحتلال بشريان الحياة، وتسلحه وتعطيه الحصانة لمواصلة جرائمه ومخالفة كل قانون، بالإضافة إلى عبثها المتواصل بأحلام العرب وأرواحهم. ولماذا نبتعد؟ إنها هي التي نقلت سفارتها إلى القدس، في إعلان سافر عن العداء والاستهانة، وألهمت بذلك غواتيمالا وغيرها من الإمَّعات.
هل يستطيع العرب معاقبة أميركا على التبرع بالقدس للمحتلين وكأنها ملكُ أبيها، أو أي شيء؟ نظرياً، نعم. لكن هذا يحتاج إلى الإجماع شبه المستحيل في الجامعة العربية، والاستحضار شبه المستحيل للكرامة والعزة القومية، والتصرف -حتى ولو مرة- في انسجام مع رغبات وأشواق الشعوب العربية. وإن حدث المستحيل وقرر العرب معاً قطع علاقاتهم مع أميركا ما دامت تستبيح كل مقدس عربي، فإن الأرباح سترجح على الخسائر غالباً، وبقدر كبير.
سيقول البعض إن الولايات المتحدة تحمي بقاء أنظمة من الداخل والخارج. لكن أنظمة وطنية تدين بالولاء لأوطانها لن تعود في حاجة إلى حماية خارجية إذا اعتصمت بحب شعوبها ولاذت بعمقها العربي على أساس الوفاق والتعاون وحسن النية. وقد يقترح البعض أن الولايات المتحدة ستغزو الوطن العربي وتحتله كله إذا تمرد، لكن هذا غير عملي ولا ممكن. وسوف تخسر أميركا إقليماً هائلاً يستهلك منتجاتها ويستثمر عندها وتزودها تبعيته بموقف المهيمن المستفيد مادياً واعتبارياً.
بل إن العرب سيجدون ترحيباً من قوى عالمية أخرى تشتري منهم وتبيع لهم، مستعدة لرعايتهم -إذا أصروا على البقاء أتباعاً ورعايا- مقابل كلف أقل كثيراً من العلاقة مع أميركا. وفي الحقيقة، ليس هناك "حليف" أسوأ من الولايات المتحدة التي ليس في سجلها كله أي خير للعرب، والتي لا تقيم وزناً لكرامة الأنظمة قبل الشعوب. بل إنها أعلنت أخيراً جهاراً نهاراً، على لسان رئيسها الذي يفرق عن أسلافه فقط في اللسان وليس العاطفة، أنها تتقاضى من العرب "خاوات" لقاء الحماية.
لن تستطيع أميركا أن تفعل أي شيء لو قاطعها العرب سوى مراجعة حساباتها. وسوف تخسر الخاوات والولاءات والمصالح والهالة إذا اختارت الجامعة العربية موقف العزة والمصلحة والضمير في التعامل معها. وغني عن القول إن قضية فلسطين والقدس وغطرسة الكيان وآلاف الأشياء في أقدار ستتغير تماماً في هكذا سيناريو.
الجامعة العربية، بما ومَن هي، جعلت من هذا كله مجرد حلم ليلة صيف، ولو أنه يبقى أملاً -بل وربما الأمل الوحيد- للشروع في تحرير إرادة ومصير الشعوب العربية. أما وأن العرب الرسميين لا يتأملونه قطعاً، فلا عجب أن تستنسر عليهم بغاث الطير وتهزأ بأحلامهم، مثلما فعلت غواتيمالا وغيرها. وهو تقدير في محله تماماً لأمة تجبُن في كل موقف مصيري وتتلهى بالعبث مع الصغار، فيما لا ينطلي على الشعوب العربية، ولا يغير انطباعات الآخرين عن أمة مستكينة وهامشية جملة وتفصيلاً.
رأي معظم العرب أن "أميركا هي الطاعون، والطاعون أميركا"، كما قال الشاعر. لكن أحداً ما يرى أن غواتيمالا هي الطاعون الذي نتصدى له ونتغافل عن غيره! فلا عجب أن تستمر هلوسات الحمى.