ريما كتانة نزال - النجاح الإخباري - يقولون: للنصر ألف أبّ بينما الهزيمة يتيمة.
ما علينا الاهتمام به، أكثر من تخاطف النصر، التعرف على التجربة بعمق دون إسقاطات إرادوية، التعرف على صنّاع المشهد، كيف غذى المشهد نفسه بنفسه، تكرار الصورة دون تعب يصيبنا عادة، التقاط وتكريس النموذج النضاليّ الذي ظهرت ملامحه بوضوح، من أجل البناء عليه في مواجهات أخرى قادمة. نموذج بديل للحالة الانقسامية وإخفاقاتها، بناء حالة التوحُّد على الأرض وليس على الورق.
التأمل في المشهد المقدسيّ يفضي إلى نتيجة مفادها بأن القدس قدّمت نموذجها البديل للمشهد الانقسامي البغيض فلسطينياً، قدّمت نموذج البطولة الجماعية، قدّمت نصها السهل الممتنع: افتراش شوارع القدس والثبات على الموقف، استقطاب الحراك الشعبي السلمي فئات وشرائح اجتماعية ومهنية مختلفة، لم يعتريه التعب كما يحصل عادة بسبب الحالة الانقسامية والإخفاقات المتتالية. المشهد المقدسي ظهر خالياً من بطولة حصرية، لذلك تحقق النصر، استطاع المقدسيون توزيع الأدوار بما أظهر ثراءها التعددي. مواقفها تشبه زخارفها وفسيفسائها.
الشباب في مركز الحدث من جيل جديد، جيل ما بعد الألفية الثانية، مواصفات فلسطينية عامة بخصوصية المكان تحت الاحتلال بما أثر على تكوين المقدسي وهويته الشخصية. جيل الألفية الثانية ورثَ الثوابت الفلسطينية من آبائهم بما صان هويته الوطنية وحماها من سياسات الاحتلال لطمسها ودفعه نحو العدمية والعَطَب، جيل يختلف عن مثيله في الضفة الغربية بحكم وضع المدينة الخاص تحت الاحتلال، ولا يشبه مثيله في مناطق عام 1948 لذات السبب.
الشباب المقدسي الذي عزز موقف المرجعيات الدينية والسياسية والمجتمعية المتوحدة على الهدف، بسبب تقاسم المعاناة والقهر والتمييز، دون استعلاء وفوقية، لكن المعظم منهم يلجأ إلى الشبكة العنكبوتية لاحتياجاته المعرفية، لذلك دخل في تكوين هويته: الشخصية الفردية.
الجميع يكرر أن ما بعد الرابع عشر من تموز يختلف عن سابقاته، لكن ما قبل وما بعد يستلزم الاقتراب من مركبات التغيير الذي وقع قَبْل وخلال وبعد: وضع وإزالة البوابات الإلكترونية، ما بين الإنجاز الذي تحقق على يد الأسرى وإضرابهم في حزيران الماضي وإنجاز هبة القدس؛ تموز 2017.
إن من يتجاهل اللحظة ورسائلها لا يستطيع استخلاص الدروس، لا يُخرِج نفسه من الخارطة فقط ويفقد مبرر وجوده، بل يفقد الصلة مع صناع الحدث وثقتهم. إنها المعادلة التي أدّت إلى إلغاء التنسيق الأمني بعد أكثر من عامين على اتخاذ القرار. ألا يستحق هذا منا رؤية ما بعد تجربة القدس التي ساهمت في صقل وإنهاض الحالة النضالية؟
تجربة الأقصى نموذج مصغر عن معركة القدس العاصمة، نموذج وحدوي للمختلفين والمتنوعين، نموذج تغليب الصراع الرئيس على الثانوي، ارتفاع منسوب إلغاء الذات، توَثُّب لتطوير المشاركة وحمايتها من التدافع، قوة التصوُّر والابتعاد عن العصبيّات، مدينة تحمل نفسها وتكفي ذاتها، نُصْرة الشعب الذي لا يخيَّب الآمال.
أشكال النضال من القضايا التي تستدعي التأمل. على سبيل المثال: لولا عملية «أم الفحم» لما كنّا أمام وضع الاحتلال البوابات الإلكترونية الكاشفة عن المعادن والنوايا، لولا تلك البوابات لما كنّا أمام التجربة الكاشفة عن القدس وردود فعلها التي مرغت أنف الاحتلال بالتراب، ولما كنا أمام عملية «حلميش» ووصية منفذها «عمر عبود» ورسائلها السياسية، وصولاً إلى المقاومة الشجاعة التي أبدتها بلدته الصغيرة «كوبر».
لنتأمل في رسالة الفدائي «عمر العبد»: «قد تكون هذه أقوالي الأخيرة»، هكذا ختم وصيته المسجلة بخط يده قبل توجهه إلى مستوطنة «حلميش»، وجاء في مرافعته: «أنا شاب صغير، لم أبلغ العشرين بعد، كانت لي أحلام وطموحات كثيرة، لكن ما هذه الحياة التي نعيشها وشبابنا يُقتلون ظلماً؟»، كان وصل إلى حالة رفيعة من الزهد بالحياة، لم يستشهد الشاب رغم قيامه بجميع طقوس ما قبل الاستشهاد..!
تهريب الشهيد «محمد أبو غنام» من فوق الأسوار: ما بين استشهاده ودفنه ساعة واحدة، «واد الجوز» خرجت من صدمتها وصمتها لحمايته من صائدي الجثث، تجهّز أمه العلم وتحضّر السرير لغفوة قصيرة. تخرج جامعة «بير زيت» لتشييعه. المزاج الجماهيري.
ما يجب على المقررين في السياسة الفلسطينية استنتاجه هو قراءة الحدث المقدسي بكل عمق ومسؤولية، استخراج دلالاته المباشرة والمبطنة واستثمار ما طرأ والبناء عليه. معركة الأقصى تضمنت صوراً كثيرة وغنية بمعانيها وتحمل رسائل وخطوطاً حمراً إلى العالم والمحيط العربي.
ليس مبالغة القول: إنها غيَّرت مواقف، علينا التأمل بما نطقت به تفاصيل أربعة عشر يوماً، لقد قالت الكثير، ورسمت البرنامج النضالي اللائق بالحالة الفلسطينية في تموضعها الحالي: الشعب ما زال لديه ما يعطيه بشروط مقاربة الارتقاء إلى مستوى الحدث والتضحيات، فهل سترتقي القيادة السياسية والوطنية إلى مستوى التحدي في صنع التغيير المطلوب وطنياً لدحر الاحتلال، الحذر من خطط جديدة للاستيلاء على ممتلكات عربية، وتهويد أماكن أخرى في المدينة المقدسة.