وكالات - النجاح الإخباري - بقلم: المحامي يحيى دهامشة - رئيس المكتب السياسيّ للحركة الإسلاميّة والأمين العام للقائمة العربيّة الموحّدة

عودة إلى الوراء - من قوانين نيوتن وحتّى النّسبيّة وميكانيكا الكمّ

شهدت البشريّة ثورةً معرفيّة هائلة منذ القرن الثّامن عشر، أحدثت قفزة تكنولوجيّة من خلال الثّورة الصّناعيّة وما جاء بعدها. فقد أعطى اكتشاف نيوتن لقوانين الحركة في الفيزياء دفعة نوعيّة في فهم الكون، وجاءت بعد ذلك نظريّة التطوّر لداروين. ومع تقدّم العلم وتطويع الإنسان بشكل أكبر لمقدّرات الطّبيعة والاكتشافات الجغرافيّة وعلم الأحياء، تكوّن شعور عند البشر بأنّهم على وشك تملّك الحقائق الكاملة عن الكون، وأنّهم بُعَيد خطواتٍ، من فكّ شيفرة الكون النّهائيّة.
عادت البشريّة إلى تواضعها بعد أن استوعبت كم أنّ الأمر ليس بسيطًا، وذلك بعد النظريّة النّسبيّة لآينشتاين وبداية الاكتشافات في ميكانيكا الكمّ، في بداية القرن العشرين. لكنّ هذه الحقبة، بين نيوتن وميكانيكا الكمّ، حقبة النّشوة، كانت كفيلة بأن تكون بداية لنشأة نظريّات مهمّة في علم الاجتماع والاقتصاد أثّرت على مجرى الأمور في القرن العشرين.

مفهوم الحركة في الفيزياء 

يمكن وصف الحركة في الفيزياء بأنّها عبارة عن انتقال جسم من الموقع "أ" إلى الموقع "ب". هذه الحركة والانتقال بين المواقع ومراقبتها، يمكن منها انتزاع أو فهم أو إدراك نظام الحركة للأجسام عن طريق عمليّة استقراء منطقيّة.
تَتَبُّع ظهور وحركة الأجرام السّماويّة، يعطيك فهمًا لحركة هذه الأجرام. فمن خلال متابعة القمر- كمثال- وفهم نظام حركته، يمكن أن نتعلّم بشكل دقيق متى سيكون القمر في موقع معين. ومِن خلال متابعة حركة الشّمس وفهم نظام حركتها، ستدرك بشكل دقيق مواعيد شروقها وغروبها في موقع محدّد على الكرة الأرضيّة.

من مفهوم الحركة في الفيزياء إلى حركة التّاريخ

كما الفيزياء؛ كذلك التّاريخ. فالأحداث التاريخيّة المتسلسلة عبارة عن وقائع متتابعة، تحدث الواحدة تلو الأخرى. ومن خلال دراسة هذا التّتابع، يمكن لنا فهم حركة التّاريخ والقوى الفاعلة فيه. ومن خلال فهم حركة التّاريخ والقوى الفاعلة فيه، يمكن لنا فهم مآلات التّاريخ في المستقبل. بمعنى آخر، من خلال فهم التّتابع والقوانين الفاعلة في التّاريخ يمكن لنا تنبّؤ المستقبل.
الفهم المعروض أعلاه، يُطلق عليه اسم "التاريخانيّة". وهو من أهم الأسس التي اعتمدها هيغل في وضع تفسير لحركة التّاريخ وزعمه القدرة على فهم مآلاته. وهي نفس المنظومة التي استعملها ماركس فيما بعد، ليضع تنبّؤاته حول صراع الطّبقات والتي ستفضي إلى سيطرة الطبقة العاملة فيما بعد.
كما قام هيغل تحديدًا بتوظيف الجدليّة في المنظومة التاريخانيّة كمُركّب أساسيّ، من خلاله تعمل القوى في التاريخ. وأصبحت عند أتباعه، فيما بعد، من أهمّ الأدوات لقراءة الواقع، بل بلغ بهم الأمر إلى تفضيلها على المنطق الصُوَريّ واستبداله بها، فأصبح الاستنتاج الجدليّ عندهم بديلًا عن الاستنتاج المنطقيّ. وهو من أهم الأسباب التي تجعلهم في كثير من الأحيان، يفشلون في قراءة الواقع وتوصيفه، وهو أهمّ ركن عند السياسيّ. فكيف يمكن للسياسيّ أن يغيّر في الواقع، إن لم يدركه أولًا؟!.

من حركة التّاريخ إلى علم الأحياء 

بعد زعم فهم حركة التّاريخ وفق علوم الفيزياء، بدأ التاريخانيّون استعمال مفاهيم من علم الأحياء وتطبيقها على مواضيعهم. أهم ميزة لهذه المرحلة كانت استعمال مفاهيم تخصّ الكائنات العضويّة وإسقاطها على المجتمعات البشريّة بشكل كليّ ومعمّم (عند ماركس بالذات، كان استعمال مصطلح المجتمع يُقصد به الدّولة).
فلم تكن هناك أيّة مشكلة عند التاريخانيين في التّعامل مع المجتمع بتركيبته المختلفة وتقسيماته، بأفراده ومجموعاته، ككائن عضويّ واحد، وإسقاط مفهوم ما كان يعرف عند علماء الأحياء بـ"التّناظر الجنينيّ" مثلا على تطوّر الأمم والشعوب (نّظريّة التناظر الجينيّ فقدت من مكانتها خلال القرن العشرين, بعد أن كان يتعامل معها على أنّها قانون بيولوجيّ)، ومن خلال منظومة العمل التطوّريّ في التّناظر الجينيّ كما فهموها، زعم التاريخانيّون بأنّ بإمكانهم فهم المآلات المستقبليّة للمجتمعات البشريّة وقراءة المستقبل. 

هيغل وما نتج عنه

بناءً على ما ذكر، حدّد التاريخانيّون مهمّة علم الاجتماع بالكشف عن قانون التّطوّر في المجتمع لكي يتسنّى لهم تنبّؤ المستقبل. بل ذهبوا أبعد من ذلك، وبدأ يتملّكهم شعور بأنّهم قادرون على بناء المجتمعات وتكوينها وفقًا لما يعتبرونه خيرًا للبشريّة.
بعد مرحلة اكتمالها كمنظومة فكر، يمكننا القول بأنّ هذه الفلسفة تلخّصت كالتّالي: أنّ الواقع عبارة عن عمليّة تاريخيّة؛ وأنّ هذه العمليّة التّاريخيّة - جدليّة؛ ولهذه الحالة الجدليّة هناك هدف محدّد، وهو مجتمع بدون صراعات.
في مرحلة متقدّمة أكثر، بدأت تنشأ الحركات المؤسَّسة على هذا الفكر. ومن خلال وضع التّصورات لهذه المنظومة، تشكّلت عند هذا الفكر أشكال محدّدة للدّولة، وهي الأشكال الّتي يسمو الجنس البشريّ إلى بلوغها في مرحلة معيّنة، فأوجبت هذه الحالة على هؤلاء النّاس، إمّا بناءَ منظومة عمل لبلوغ هذا الشّكل المرجوّ لأشكال الدّولة، أو تسريع الوصول إليه. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، كان يتوجّب على هذه الحركات بلوغ مراكز السّيطرة ومفاصل التّأثير في المجتمع، لأنّ بناء المجتمع المثاليّ، أو الدّولة المثاليّة تحتّم عليهم سيطرة مطلقة على كل القوى الفاعلة من أجل هذا الهدف. هذا الأمر أدّى إلى أن تُنشئ هذه الحركات، أشرسَ أنظمةٍ مركزيّة عرفها التّاريخ البشريّ وأكثرها رعبًا ودمويّة وبطشًا - الأنظمة الشّموليّة. 
قد يسأل سائل: ولم تخوض في كلّ هذا الأمر الآن؟ فلقد فشلت الأنظمة الشّموليّة، سواءً عن طريق إخضاعها وتدميرها في الحرب العالميّة الثّانيّة (ألمانيا النّازية وإيطاليا الفاشيّة)، أو عن طريق انهيار وفشل نهجها الاقتصاديّ (الاتحاد السوفياتيّ والمعسكر الاشتراكيّ).
أقول: الأنظمة الشّموليّة فشلت. صحيح. ولكنّ طريقة التّفكير المثاليّة، التي تضع نصب أعينها شكلًا معيّنًا لأشكال الدّولة أو المجتمع، وتسعى للوصول إليه، أو تدّعي ذلك، ما زالت قائمة عند أحزاب اليسار الاشتراكيّ في مجتمعنا إلى اليوم (الجبهة والتّجمع)، إضافة الى منظومة استنتاجهم الجدلية لقراءة الواقع.
لكنّ الإشكاليّة أصبحت أكثر تعقيدًا بعد انهيار الأنظمة الشموليّة. فعلى الأقلّ، عند الأنظمة الشّموليّة كان تصوّر واضح لشكل الدّولة، بغضّ النّظر عن الفشل البنيويّ في المنظومة (والذي سنتطرّق إليه في المقالة القادمة)، لكن عند هذه الأحزاب، هو سعي لا ينتهي للوصول إلى شكل غير مفهوم للدّولة، ينظرون له من خلال شعارات المساواة ودولة جميع المواطنين. بمعنى آخر، إنّ اليساريّين، حتّى بعد المدرسة النّقديّة والفلسفة الـ "ما-بعد-حداثيّة" التي جاءت لتحاول انتشال الفكر اليساريّ من قصوره، ما زالت تفكّر بنفس الطّريقة الأساسيّة: زعم وجود تصوّر مثاليّ (غير مفهوم)، والسّعي للوصول إليه (بعبثيّة). ولكي نفهم ذلك، فنحن مضطرّون للخوض في تاريخهم.