نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - أكدت مصادر عديدة أن الإدارة الأميركية لمست أن استمرار الأوضاع الاقتصادية في الضفة، والوضع المالي للسلطة الوطنية سيفاقم الأوضاع فيها، خصوصاً أن الحالة «السياسية» للسلطة هي حالة متفاقمة أصلاً، وأن الشارع الفلسطيني محتقن إلى درجة خطيرة، وتنذر كل هذه المعطيات وقد تؤدي فعلاً إلى انهيارات كبيرة في بنية السلطة، ما سيؤدي حتماً، وفي نهاية المطاف إلى انفجارات ميدانية كبيرة من شأنها إدخال الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في موجات متلاحقة من الصدام والعنف.
وأكدت مصادر عديدة أيضاً أن الإدارة الأميركية قد عبرت للجانب الإسرائيلي تحديداً عن كل مخاوفها حيال تفاقم هذه الأزمة، كما ألمحت هذه الإدارة أنها قد تحدثت مع إسرائيل بلهجة الإنذار والتحذير وليس بلهجة تبادل الآراء أو وجهات النظر.
ربطت الإدارة الأميركية بصورة محددة وملموسة بين رغبتها في «استئناف» المفاوضات بين الجانبين وبين «ضرورة» أن يتم وبسرعة تدارك حالة التفاقم القائمة، لأن من شأن عدم الإقدام المباشر والفوري على تقديم المساعدات العاجلة للسلطة الفلسطينية أن ينسف الرغبة الأميركية، وكذلك كافة رغبات وتوجهات المجتمع الدولي الساعية لاستئناف هذه المفاوضات.
في نفس الوقت، أكدت الإدارة الأميركية أنها ليست بوارد «الضغط» على الجانبين إذا لم يبادرا هما وبنفسيهما إلى إظهار رغبة كافية بهذا التفاوض، وإذا لم يعبرا عن استعدادهما الصريح للجلوس على طاولة المفاوضات.
ويقال بهذا الصدد، إن وزير الخارجية الأميركي قد أوضح كل هذه المسائل للرئيس بايدن، وإن الانطباعات التي نقلها كانت «قاسية» حول أوضاع السلطة الفلسطينية، وحول احتمالات الانهيار، وذلك قبل أن يعبر المبعوث الأميركي عن نفس الانطباعات التي ساقها وزير خارجيته ومسؤوله المباشر.
ليس صدفةً أبداً أن يتبنى هادي عمرو، المبعوث الأميركي نفس الموقف الذي كان قد طرحه وزير الخارجية، وليس صدفة أبداً أن «التأكيد» الأميركي على هذه الانطباعات ـ وهو رأي قاطع أكثر منه مجرد انطباعات ـ قد أتى تباعاً.
الإدارة الأميركية الجديدة لا يمكن أن تؤكد وتعيد التأكيد على هذه الانطباعات لمجرد وصف الحالة، أو لمجرد التنبيه لها ولفت الأنظار أو حتى التحذير من عواقبها.
كما لا يمكن أن يكون السبب في ذلك بهدف «تبرير» زيادة الدعم الأميركي للسلطة الفلسطينية، لأن الإدارة الجديدة ليست بحاجة «ماسّة» لهذا التبرير.
كذلك لم يقف «الدعم» الأميركي عند حدود المساعدات الاقتصادية بما في ذلك المساعدات الأخيرة لـ»الأونروا» بما يزيد على 135 مليون دولار، وإنما ترافق ذلك مع عزم الإدارة الأميركية على إعادة فتح قنصليتها في القدس الشرقية، وعن تمسكها بحل الدولتين، وعن الطلب المتكرر من اسرائيل بالكف عن السياسات الأحادية الجانب والاستفزازية، بما في ذلك الوضع القائم في القدس، وسياسات هدم البيوت، وبعض «الإعلانات» الإسرائيلية عن عمليات استيطان واسعة في الضفة وفي القدس الشرقية.
الحقيقة هي أننا ومن حيث الظاهر في السياسة الأميركية حيال الأوضاع القائمة في الضفة، ومن حيث المخاوف من تفاقمها، ومن حيث حثها لإسرائيل على التراجع عن بعض السياسات التي تزيد من تفاقم هذه الأوضاع.. من حيث الظاهر تبدو هذه السياسة وكأنها أقرب إلى الأحجية السياسية منها إلى سياسة مدروسة وهادفة سوى لمعالجة طارئة وسريعة، وليست سوى «مسكّنات» مالية واقتصادية لمنع «الانهيار» السريع ليس إلّا.
لكن الحقيقة ليست كذلك، والأمر ـ كما أرى ـ يتعلق بتمهيد «استراتيجي» للخطوات القادمة، والتي لن يطول انتظارنا لها، وقد لا يتعلق الأمر بعدة أسابيع، وهو لن يتعدى عدة أشهر قادمة على أبعد تقدير.
صحيح أن الإدارة الأميركية أوضحت بأن الشرق الأوسط ليس له أولوية في سلم اهتماماتها، لكن الصحيح أيضاً أن الحرب الأخيرة قد غيرت من هذا الاتجاه، وأجبرت هذه الإدارة على إعادة الاهتمام بالصراع في منطقة الإقليم عموماً وبالصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحديداً، وإذا أردنا قراءة وإعادة قراءة التوجهات الأميركية بهذا الصدد فإنه يمكننا بشيء من التمحيص الوصول الى الاستنتاجات التالية:
أولاً: تريد الإدارة الأميركية أن تقول من خلال «زرع» الانطباعات حول تفاقم أوضاع السلطة الفلسطينية ـ وهي انطباعات صحيحة ـ والتأكيد عليها مرارا وتكرارا إن أمور هذا الصراع لا يمكن أن تستمر كما هي عليه، وان المراوحة في دائرة «إدارة الصراع» لم تعد مقنعة، وأن هذه الإدارة ستحاول الذهاب الى مساحة جديدة، والانتقال الى خطوط أمامية باتجاه بلورة الحل الذي «تراه» مناسبا وممكنا وقابلا لأن يشكل اختراقاً حقيقياً في هذا الصراع. وهذا هو المعنى الأول للتمهيد الذي أشرنا إليه.
ثانياً: تواجه الإدارة الأميركية مطالب فلسطينية (يقال إنها سلمت للإدارة الأميركية ولمبعوثها الأخير، وإنها تقارب الثلاثين مطلباً)، وقد تم وصفها بأنها «استحقاقات» وليست شروطاً فلسطينية، كما تواجه بالمقابل الكثير من الشروط، وليس فقط الاستحقاقات، وهي شروط يمكننا فقط تخمينها لأن الإدارة الأميركية لم تفصح عنها أبداً، وهي طي التجاهل أو الكتمان لدى الجانب الإسرائيلي.
المهم في الأمر هنا هو أن الولايات المتحدة تحتاج الى «ترويض» الجانب الفلسطيني (وهي ـ أي الولايات المتحدة ـ تعتقد أن البوابة الاقتصادية ستكون كافية في هذه المرحلة).
وفي الجانب السياسي فإن الولايات المتحدة تعرف حق المعرفة أن «الاكتفاء» بالحديث عن تمسك الولايات المتحدة بحل الدولتين لن يكون كافيا للجانب الفلسطيني، وانهم لن يقبلوا أبداً بأن يتم اختصار الحل بالمساعدات الاقتصادية العاجلة، أو التقزيم بما يصل إلى «شكلنة» الحقوق الوطنية او الالتفاف عليها.
يستحيل إذاً، ان يكون الموقف «الحقيقي» الأميركي إن هي أرادت أن تدخل في خضم البحث عن حل ما وليس فقط البقاء في منطقة إدارة الصراع ان يتوقف عند هذه الحدود.
ثالثاً: وتأسيساً على ذلك يطرح السؤال التالي:
ما هو «الحل» الذي يمكن ان تطرحه الولايات المتحدة للدخول في منطقة «الحل» دون أن يؤثر على علاقاتها الخاصة للغاية مع اسرائيل، ويحافظ على تفوقها، وعلى استقرارها وأمنها بما في ذلك المحافظة ما أمكن على تحالف سياسي «متوازن» فيها، لكي يصار إلى السير قدماً في حل مفترض؟
وما هو الحل الذي يقبل به الجانب الفلسطيني وبما يتجاوز الإعلان عن تمسك الإدارة الأميركية بحل الدولتين، وبما يجعل مثل هذا الحل «ممكنا»؟
وكيف للولايات المتحدة أن تقنع اليمين الإسرائيلي بحل ينطوي على دولة فلسطينية بصرف النظر عن بعض إشكاليات وخصائص هذه الدولة؟
بل وكيف للولايات المتحدة أن تقنع ليس فقط اليمين الإسرائيلي، وإنما بعض الأوساط النافذة في الوسط واليسار أيضاً؟ ليس الأمر سهلاً، وهو «حل» ينطوي على مغامرة كبيرة للفشل إذا لم يتم طرحه قبل أن تستكشف الولايات المتحدة إمكانيات عدم فشله إذا لم نقل نجاحه.
هل هو وعد على شاكلة «وعد بلفور» مع وقف التنفيذ، إلى حين تلبية المطالب الإسرائيلية حيال هذا الوعد، او ترويض الجانب الإسرائيلي لقبوله؟
هذا ما سأحاول تفصيله في المقال القادم، خاصة وأن هذا التفصيل ليس من بنات أفكاري الخاصة، بقدر ما هو من بنات أصدقاء وزملاء، ومن نتاج تفاعلات جادة جرت في الأشهر الأخيرة مع كل هؤلاء.