نابلس - أشرف العجرمي - النجاح الإخباري - الحديث عن حادثة وفاة المواطن نزار بنات بمعزل عما سبقها من أحداث ومواقف لا يعكس الحقيقة كاملة، ولا يفسر الواقع الذي نعيشه هذه الأيام في مناطق الضفة الغربية تحديداً أو مناطق سيطرة السلطة الوطنية. ومن نافل القول التأكيد على أن عملية اعتقال وقتل بنات شكلت صدمة كبيرة وقوية للمجتمع الفلسطيني، ليس فقط لأن فيها مخالفة واضحة وقاطعة للقانون الفلسطيني، بل وأيضاً لأنها تمثل استهتاراً بقيمة الحياة الانسانية التي يجب أن تُحترم وتعتبر أولوية قصوى في وظيفة أي نظام حكم سليم، وبالذات لأن أوضاعنا لها خصوصية ربما لا يماثلها أي وضع في أي مكان في العالم، ونحن نعاني من الاحتلال الإسرائيلي الذي يسرق كل شيء لدينا بما فيها أرواح وحياة البشر.
كما أن معالجة السلطة لموضوع مقتل بنات كان سيئاً ومتأخراً، ولا يأخذ بالاعتبار الرأي العام ومدى حساسية المسألة التي تعصف بالمجتمع والسلطة وتهدد باستقرارها وربما وجودها لاحقاً. كان من المفروض أن تعلن السلطة على أعلى مستوى منذ اللحظة الأولى أن خطأً قد حصل، وأنها تتحمل المسؤولية الكاملة عنه وأنها اتخذت إجراءات فورية من قبيل ايقاف كل المتورطين بالموضوع بمن فيها مسؤولون كبار عن العمل حتى انتهاء التحقيق في الموضوع وتقديم المخالفين للعدالة. كما أن لجنة التحقيق يجب أن تشكل من جهات عديدة ترضي جميع الأطراف وتكون موثوقة بحيث تكون استخلاصاتها مقبولة من الجميع. وكان ينبغي أن تذهب شخصيات قيادية كبيرة لزيارة عائلة بنات لتقديم واجب العزاء وتقديم كل ما يلزم للعائلة. فغياب السلطة في الأيام الأولى أحدث فراغاً كبيراً وسمح لكل من يشاء أن يستغله ويوظفه لصالحه.
       وكان يمكن أن تمر حادثة مقتل بنات بطريقة أقل حدة مما شهدنا لو أن توقيتها كان مختلفاً. فهي قد أتت في وضع تدهورت فيه شعبية السلطة والقيادة إلى أدنى مستوياتها بسبب طريقة تأجيل الانتخابات العامة، وضعف أداء السلطة خلال الحرب الإسرائيلية مع غزة، وأيضاً بسبب فضيحة صفقة اللقاحات الكارثية، بالإضافة إلى مشكلات عديدة ترتبط بسوء الأداء وقضايا فساد، والشرخ في العلاقة بين الجمهور والمستويات القيادية، كلها أمور تضافرت فيما بينها، ما جعل الحادثة الأخيرة تكتسب أهمية استثنائية وتخلق أصداء محليةً ودولية كبيرة وبعيدة المدى تمس بالسلطة وعلاقاتها مع المواطنين ومع الجهات الدولية. ناهيكم عن سلوك الأمن في مواجهة المتظاهرين المحتجين على مقتل نزار بنات. والذي لم يراع حساسية المسألة ويمتص غضب الناس ويفوت الفرصة على من يريد مفاقمة الأمور بشكل كبير.
السلطة الآن في وضع خطير وعلى مفترق طرق، فقد يتم تجاوز الموضع غالباً هذه المرة بسبب تضارب أهداف المحتجين واختلاف مواقفهم، ولكن لا توجد ضمانة على الإطلاق بأنه إذا حصلت حادثة أخرى مشابهة تعكس خللاً في سلوك السلطة ستستطيع الصمود في ظل موجة من التظاهرات والهيجان الشعبي. خصوصاً وأن تآكلاً كبيراً في شعبية السلطة قد حصل في السنوات الأخيرة بسبب ضعف الأداء وتغول السلطة التنفيذية، وغياب السلطة التشريعية والرقابة الحقيقية، وتحجيم السلطة القضائية والاعتداء على استقلاليتها وفقدان الثقة فيها، وعدم وجود محاسبة حقيقية على الأخطاء وسوء الإدارة والفساد في مؤسسات السلطة، وتقلص مساحة الديمقراطية وحرية الرأي.
ما يمنع تدهور الأمور إلى حد الدمار الشامل والفوضى هو عدم توحيد شعارات ومطالب الاحتجاج، وهنا من المفيد العودة قليلاً للوراء إلى الاحتجاجات على قانون الضمان الاجتماعي التي كادت تسقط السلطة لو لم يتم التراجع عن القانون، مع أن الموضوع هو اقتصادي- اجتماعي ويخص قطاعاً محدداً وليس كل الشعب. وفي الاحتجاج على مقتل بنات تدخلت عوامل وأجندات متناقضة لم تستطع تجنيد الشارع بشكل كبير برغم التظاهرة الكبيرة في الخليل خلال جنازة بنات. فمن المحتجين من ينتمي إلى فصائل لها رغبة جافة في انهيار السلطة والدخول في حالة فوضى تنتج وضعاً شبيهاً بما حصل في غزة، مع فارق أنه لا يمكن السيطرة على الضفة لأسباب جغرافية وبسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي الذي سيمنع ذلك. ومن المحتجين من يحاول الانتقام من السلطة وتصفية حسابات معها، ومن يحاول كسب الشعبية لدواع انتخابية مستقبلية، وهناك أطراف إقليمية مؤثرة دخلت على خط الاحتجاجات. ولكن الغالبية الساحقة من المواطنين ينتقدون السلطة لأنهم يريدون اصلاحها ويريدون أن تكون أفضل وتقوم بواجباتها على أكمل وجه ولا يريدون تدميرها والدخول في حالة فوضى. وبالتالي لا يمكن اتهام المحتجين بأنهم طابور خامس، أو أنهم ضد السلطة أو ضد «فتح»، حتى مع ادراك وجود أجندات تخريبية.
الدرس الذي ينبغي تعلمه مما حدث هو ضرورة المسارعة في إحداث تغيير حقيقي في بنية وأداء السلطة بحيث تستعيد ثقة الجمهور. وفي هذا السياق من المهم السعي لتشكيل حكومة وحدة وطنية، مع أن هذا الموضوع ليس سهلاً بسبب شعور «حماس» بالانتصار وشعورها بضعف السلطة و»فتح»، ولكن الأيام القادمة ستحمل «حماس» على التفكير ملياً في خيارها. وهنا من المفروض أن يشعر الجميع بجدية التوجه للأطر الوحدوية التي تضمن شراكة حقيقية وإصلاحاً ورقابة تضع حداً لسلسلة الأخطاء الكارثية. فالسلطة منجز وطني ودمارها لا يخدم شعبنا، ولكن عليها أن تكون بمستوى المسؤولية وأن تتطور نحو مؤسسات دولة ديمقراطية وحضارية.