نابلس - تحسين يقين - النجاح الإخباري - ماذا يعني البدء بصديق الطفولة يحيى، في المخيم البعيد، والانتهاء به، في حديث واقعي ورمزي عن الوجود، فهل المصير تراجيدياً، لدرجة التعرض للموت والقتل، وأن يكون البقاء صدفة، أو هو الوجود المؤقت، في ظل استهداف الفلسطيني على أرضه وفي الشتات؟ وهنا بالذات يكتسب المصير معنى عميقاً، في رواية مراحل من السيرة الذاتية والجمعية، حيث يقفز هذا المعنى في ظل الحديث عن الوطن، فكيف وقد سمح له بزيارة الوطن؟!
هي رواية المصير، والحياة والموت، وانتظار العودة، وحين تجيء الفرصة تكون مشروطة ومحددة بوقت وزمن. فكيف سيشتبك الراوي شاهداً لما يختبره من زيارة لوطن عاشه لكن في ذاكرة الآخرين، والكتب.

«لست عائداً بل لاجئ»..
اللحظة الأولى للتماس مع الوطن، بعد طول ارتباط عن بعد، جعلت الذاكرة تقفز إلى تلك الحياة، من البدء حتى لحظة التماس، بما تثيره لدى اللاجئ من ذكريات ومواقف.
واللاجئ أو المنفي، وحتى المغترب، ليس واحداً، وهنا في هذه الرواية لدى الكاتب ناجي الناجي، إنها أول مرة، فليس كمن عاش فترة في الوطن وانقطع مغترباً أو منفياً، كمريد البرغوثي ومحمود شقير وفاروق وادي.
ما بين العلم باستصدار تصريح الاحتلال بزيارة الوطن، حتى فعل الزيارة، وانتهاء بعطل السيارة في طريق مغادرة الوطن، يتنقل بنا الكاتب في رواية السيرة عبر الأزمنة والأمكنة، تلك التي كونت أبعاد شخصية الراوي، حتى صارت هو، وصار هي: أمكنة وأزمنة، خط زمن على جغرافية الأرض المتنوعة، حتى حسبنا الزمن غيره مع أنه نفسه، هو الزمن نفسه، لكن مع تشتت المكان تشظى إلى أزمنة.
ثمة سماء واحدة و»سبعة بحور» إذن، وللفلسطيني هنا، أن يتنقل في المكان، في ذات الزمن، من بلد إلى آخر، بهدف الاقتراب من العودة يوماً.
لذلك، سنجد في رصدنا لفصول الرواية، أن ما كتبه عن الوطن واقعاً، خلال الزيارة ظل جزءاً محدوداً، لم يتجاوز خمس ما كتب عن حياته في الشتات. إنها فعلاً «سبعة بحور»، وأكثر.
من العودة إلى البدايات، إلى مخيم اليرموك، حيث المعسكر وغارة الاحتلال على معسكر تدريب للفدائيين، يستشهد فيه من يستشهد، ثم طريق العودة - الزيارة للوطن، فالانتقال لعين الحلوة، والولادة خلال حرب لبنان عام 1982، فالعودة للحديث عن الوطن ومصطلحات أوسلو عن الجغرافيا، فالذهاب إلى مرحلة نيقوسيا، ونصيحة أبي قيس في النظر في العينين مباشرة، خلال الحديث مع بريطاني عن الصراع. ويعود لليرموك، وحادثة مراقبة السلطات لوالده الفدائي، فالوطن الآن، فالمسرح البلدي في وداع درويش لتونس، فالوطن لكن من خلال سخرية بالمسؤول ذي ربطة العنق، فبودابست وحداثة التنزيل من القطار، فصوفيا، فالخليل، بل رام الله، فبيت لحم مهد الحكاية، فمصر وجامعة القاهرة طالباً، فالوطن والقدس بشكل خاص، والتهرب ليافا تسللاً.
وهو في كل مرحلة نجده يستغرق في الحديث عما هو ملائم للمكان أو الأحداث التي مرت عليه حديثاً كالخليل وجنين، وما له علاقة بنكبة العام 1948 كالحديث عن يافا، والتنوير الثقافي، ثم إيراد مرحلة غزة من التواصل، وحكاية الطفل الرسام الذي ينقطع التواصل معه خلال الحرب، بإيحاء إلى استشهاده، وانتهاء بمشهد عطل السيارة في طريق مغادرة الوطن بعد انتهاء فترة تصريح الاحتلال. وهنا نراه يستحضر حواره مع أبي قيس بأن ينظر إلى عيون من يكلمهم، مطالباً أسرته بالنظر تجاه عيون جنود الاحتلال إن اقتربوا منهم في المركبة المعطلة.
اعتبر الكاتب أن زيارته كانت زيارة لاجئ: «لست عائداً بل لاجئ»، فإذا اعتبر درويش عودة العائدين بالعودة النسبية، فهو وقد منح تصريحاً محدداً، فلم ير نفسه في الزيارة إلا زيارة لاجئ.

الاندماج:
من الملاحظ هنا، على رواية «سماء واحدة وبحور سبعة»، كأدب يصور الفلسطيني خارج الوطن، أنه يمكن رصد دلائل مصداقية وصف حياة الفلسطيني في المنفى، ومدى اندماج الفلسطيني في الشتات، حيث نرى أن المكانين اللبناني والسوري كانا الأكثر اندماجاً، في حين تفاوت ذلك ما بين متوسط وعابر، من ذلك هنا في الشقيقة تونس، كيف تأثر الفلسطيني بالحياة التونسية، وكيف أثر بها أيضاً. كذلك أمكن رصد تأثر الفتى بالحياة في صوفيا، من ذلك مشهد الفتية مع «ثلجية البشرة بضّة الوجه»
صفحة 85، وكيف كانت تدربهم بالسير على الجمر. ولعلنا رغبنا في المزيد من هذا التفاعل الإنساني، ولعل تعلق البطل بفلسطين، يفسّر لنا محدودية الاندماج، بما يؤشّر لمظاهر مهمة للحياة الفلسطينية في الشتات.

الشكل
لذلك، استدعى مضمون الرواية ذلك الشكل الفني، في التنقل بين الأمكنة، تبعاً لرحلات الفلسطيني في فضاء الكون، بحيث كان أسلوباً حيوياً روى عن حياته وحيوات أخرى، فكوّنا حكاية طفل وفتى وشاب وكهل، يحيا في أماكن متنوعة، لدرجة أن وطنه صار أحد الأماكن بسبب أن العودة إليه لم تتجاوز معنى الزيارة المحكومة بزمان، بل وبمكان محدد من الوطن.
لذلك جاءت «سماء وسبعة بحور»، لناجي الناجي، في عنوان طقسي، يذكرنا بدلالة الرقم 7، الذي يعني التكثير، ويعني الميثولوجيا. وهنا تصبح «السبعة بحور»، مرتبطة دلالياً بسندباد مثلاً، في طريقه للعودة إلى الوطن، وهذا ممكن تحت السماء الواحدة.
ولعله، الشعب، من سبع أرواح، يصعب تغييبه!
وهنا أيضاً تصاحبنا المأساة، لتكتمل الدائرة في يحيى، بمصيره المأساوي: نجا من الموت تحت قصف الاحتلال لقاعدة فدائية، في طفولته، ليقضي في البحر، بعد غرق القارب، الذي يقل فلسطينيين لاجئين، كأن المصير يعابثه، يمهله الموت قليلاً أو أكثر، ليرجع له، فكأن تلك السنوات كانت في انتظار المصير.
أما الصدق في الحديث عن الخارج - الشتات أكثر من الانفعال في الحديث عن العودة - الزيارة، فمرد ذلك أن حياته كانت كلها هناك في الشتات، وأن الحياة هنا فقط حياة زائر ليس أكثر.
استخدم الكاتب الوصف، كما في الحديث عن القدس والخليل، عن المعمار والحياة المعمارية، ليدلل على عراقة الوطن والشعب من ناحية، وليكشف كذب الاحتلال.
تنوعت اللغة بين الوصف العادي وسرد الأحداث، وبين الوصف المكتمل للمكان، وبين وصف الشعور الانفعالي. وقد تجلى ذلك الانفعال في شكل الشعر والمونولوج الداخلي. أما اللغة فكان هناك اتجاه لإظهار القدرات التعبيرية، مثل «القتام الثلج» صفحة 39 في الحديث عن الغارة، لإظهار حالتي التناقض بعد الغارة، وكيف يضيف اللون عمقاً وتأثيراً على القارئ. كما حفل النص بأسماء مثقفين وكتاب ومبدعين، في إشارة إلى ثقافة الكاتب وتكوينه الثقافي.
لعلّه زياد، إذاً هي رواية السيرة الذاتية، أو بالأدق، رواية عن أجزاء من الحياة في أماكن متنوعة، كتبت من وحي زيارة الكاتب للوطن. إنها رواية ما دار من تداعيات الزيارة، تاركة إيانا كي نكمل فصول الرواية.
«لست عائداً بل لاجئ».. هو وصف حقيقي للزيارة، وتأكيد على العودة.. وهذه هي الإضافة النوعية لرواية «سماء واحدة وبحور سبعة» للكاتب ناجي الناجي.

صدرت الرواية في 207 صفحات، عن دار ابن رشد - القاهرة 2020، بالإضافة إلى طبعة خاصة بفلسطين الرقمية من فلسطين إلى العالم.