أنور رجب - النجاح الإخباري - من المسلم به أن المنظومة الفكرية والتربوية لجماعة الإخوان بكافة أطيافهم وفروعهم ومسمياتهم تنهل من المعين الفكري نفسه الذي خطه مؤسسو الجماعة ومنظروها، بداية من مؤسس الجماعة حسن البنا مروراً بسيد قطب وليس انتهاء بالقرضاوي، بالإضافة إلى مجموعة من مفكري ومنظري التراث، وتحتوي هذه المنظومة على الكثير من المفاهيم المتداخلة والمتقاطعة بحيث يرتبط كل مفهوم بالآخر، وقد أسست هذه المنظومة لمفاهيم تربوية ذات علاقة بنظرة الإخوان للمجتمع بحيث تم تفصيلها على مقاس برنامج ومنهج الإخوان بما يخدم المشروع الإسلامي الكبير "أستاذية العالم" وهو يعني السيطرة على العالم من خلال تكوين تنظيم قوي يتبنى رؤية "شاملة" للإسلام.

وفي سياق هذا الفهم أنتجت المنظومة الفكرية والتربوية لجماعة الإخوان "ديناً موازياً" يخدم بتفاسيره وشروحاته وحلاله وحرامه فكرة "الأستاذية"، وللتسليم بهذا الدين الموازي كان لابد من إضافة هالة من القدسية للكهنوت الديني يشمل مفكري ومنظري الجماعة.


تعتقد الجماعة وتؤمن في رؤيتها الشاملة بالتقسيم الثنائي الاستقطابي الحاد للمجتمعات العربية والإسلامية بين (مؤمن وكافر، أهل الجنة وأهل النار، دار الحرب ودار السلام، فسطاط الخير وفسطاط الشر، الجاهلية والإسلام)، وهذا التقسيم يعتمد على معايير محددة خطها مؤسسو ومفكرو ومنظرو الجماعة، تنسجم وتتسق مع المنظومة الفكرية والتربوية للجماعة بما تحتويه من مفاهيم أصَلت في ذهن المنتمين لها ثقافة موازية وغريبة ومتناقضة مع الثقافة المجتمعية السائدة وعلى جميع المستويات والأبعاد سواء في بعدها الديني أو الوطني أو القيمي أو السلوكي، وأنتجت فيما أنتجت عقيدة "الاصطفاء"، ومفادها أن الله اصطفاهم لإحياء الإسلام واستعادة أمجاده وأنهم بُعثوا رحمة للعالمين، وأنهم أصحاب الإسلام الحق والأوصياء عليه وما دونهم باطل، ومن هنا سادت مجموعة من المصطلحات توصف من خلالها الجماعة نفسها، وتخدم هذه العقيدة وتعززها على شاكلة (جماعة المسلمين، الفرقة الناجية، حزب الله، الطائفة المنصورة). 
ومن رحم هذه المنظومة ولدت عقيدة "الاصطفاء" وتم التأصيل لها من خلال مفاهيم متعددة، وفي مقدمتها مفهوم "الولاء والبراء"، الذي يعني بشكل عام موالاة المؤمنين ونصرتهم، والتبرؤ من الكفار ومعاداتهم، وضمن شروحات وتفاسير المرجعيات الفكرية للإخوان اتسعت دائرة "البراء" لتشمل كل من هو مخالف للجماعة، وضاقت دائرة "الولاء" حتى اقتصرت على الجماعة ومريديها، وكان لمفهوم "الجاهلية" الذي رمى به سيد قطب المجتمعات والدول والحكومات والأحزاب والمؤسسات دور في تأصيل وتعزيز تلك الشروحات والتفاسير في وعي مريدي الجماعة، وجاء مفهوم "العزلة الشعورية" لتكريس عقيدة الاصطفاء مقترنة بثقافة أكثر خطورة وهي ثقافة "الاستعلاء" التي تعني أن يعيش أبناء الجماعة العزلة عن المجتمع "الجاهلي" شعورياً بما يمتلكونه من تمايز في كل شيء عن هذا المجتمع (الكثيرون منا عايشوا بدايات ظهور الإخوان الفلسطينيين- المجمع الإسلامي- وانكفاءهم على ذواتهم سواء في المدرسة أو الجامعة أو المسجد وحتى المناسبات الدينية والعائلية).

وبحكم هذه العقلية أنشأ الإخوان ديناً موازياً ومنظومة تربوية موازية ومنظومة سلوكية موازية وأيضاً مؤسسات موازية تستوعب وتنسجم مع مشروع "أستاذية العالم" الذي يبدأ من الفرد وينتقل إلى الأسرة (الإخوانية وليس العائلة) ثم المجتمع، وبالطبع فهذا المشروع العالمي العابر للحدود لا يعترف بالدولة الوطنية ويُطبق على مواطنيها تقسيمه الحاد الثنائي للمجتمع، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار رسوخ عقيدة الاصطفاء وتلازمها مع ثقافة الاستعلاء وارتباطها بالمفاهيم الأخرى المؤصلة لها، فإنها مجتمعة تنتج ثقافة أكثر فتكاً هي ثقافة "الاستقواء" المقترنة بمفهوم "الغلبة" وما يصاحبها من مبررات شرعية وفقهية تمنحهم الحق في استخدام العنف بكل أنواعه ضد الآخر "المخالف" الذي وفق عقيدتهم هو كل من يقف حجر عثرة لاستعادة الدين وتحكيم شرع الله وإقامة الخلافة الراشدة وسيادة العالم!!
إذاً وفق هذه المنظومة الفكرية والتربوية وما نتج عنها من مفاهيم أنتجت هي الأخرى ثقافة متعددة الأنماط والأشكال، فمن الطبيعي أن نرى ترجمة عملية لهذه المنظومة في تصريحات وسلوك قيادات وأعضاء الجماعة في غزة وغيرها، إذ وفق عقيدة الاصطفاء فلا غرابة ولا استهجان فيما يصدر عن قيادات وكوادر جماعة الإخوان في فلسطين (حماس) من افتراء على الدين والتقول على لسان رسولنا الكريم، وادعائهم بامتلاك الحق المطلق واحتكار الحقيقة، وتنصيب أنفسهم أوصياء على الدين، وأن لا دين ولا إسلام دونهم.

 وفي هذا الإطار جاء حديث ماهر أبو صبحة (قيادي في جماعة حماس) وما يراه من أن الإسلام الحقيقي لم يدخل غزة إلا مع تأسيس الجامعة الإسلامية عام 1978، وأن إسلام الناس قبل ذلك التاريخ غير صحيح، وهذا الحديث لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فقد سبقته مسؤولة العمل النسائي في الجماعة حيث قارنت بين تأسيس حماس وظهور الرسالة المحمدية، واعتبرت أن كليهما أُرسل رحمة للعالمين، فيما رأى فتحي حماد القيادي في الجماعة بأن نبينا محمدًا-صلى الله عليه وسلم- كان قد بشر بظهور حماس، وهناك الكثير من الأمثلة لا يتسع المقام لذكرها.

أما على مستوى التطبيق الفعلي الميداني، فيمكن القول إن ثقافة الاستعلاء والاستقواء واقترانها بمفهوم الغلبة، بجانب فتاوى الأمير صاحب الهالة المقدسة "الذي لا ينطق عن الهوى"، استسهل مريدو الجماعة وأبناؤها قتل المخالف من أبناء حركة فتح والأجهزة الأمنية وتقطيع أطرافهم واعتبروه عبادة يتقربون بها إلى الله، كما اعتبروا التغول على حقوق الناس وقمعهم واعتقالهم ومصادرة كرامتهم وأموالهم وانتهاك أعراضهم حماية للمشروع الإسلامي و"المقاومة"، وفي سبيل ذلك لا يضيرهم الكذب والتزوير والتزييف وقلب الحقائق ما داموا يمتلكون رخصة من الولي الفقيه لسلوكهم وتصرفاتهم على قاعدة "أن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما تُؤتى فرائضه".
وقبل أن نختم، فإن ما حدث مع أُم الأسرى المناضلة أم جبر وشاح وعائلتها في مخيم البريج، لا يمكن وضعه تحت يافطة "سوء تصرف"، وكذلك الحال بالنسبة لمشاهد ضرب وسحل أصحاب البسطات المغلوب على أمرهم في دير البلح، وما حدث قبل ذلك في حراك "بدنا نعيش" من قمع وتكسير واعتقالات وتعذيب وانتهاك حرمات البيوت والعائلات، وإنما هو نتاج تلك المنظومة التي لا تقر لا بالحق ولا بالحقيقة ولا تعترف بكرامة ولا حصانة ولا وطن ولا مواطنة ولا حرية لمن هم خارج ملة الجماعة.