عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - أولاً، لنتوقف عن ترديد عبارة "قتل على خلفية الشرف".. الشرف والقتل نقيضان لا يجتمعان، القتل جريمة بشعة ومدانة، ومن يقتل مجرم، بغض النظر عن دوافعه.. ولا يمكن لقاتل أن يكون مدافعا عن الشرف؛ الشرف لا يتمثل في جسد المرأة.. الشرف هو صدق الإنسان مع نفسه، ومع الآخرين، هو الأمانة، والالتزام، هو النزاهة والعفاف، هو التسامح وحُسن المعشر.. هو ألا يكون للشخص شخصيتان: علنية، يدّعي فيها الشرف والتدين، وأخرى سرية يمارس فيها كل الرذائل.. الشرف يتضمن كل القيم الإنسانية السامية: الانتماء، العمل، العطاء.. أما إذا أصر المجتمع على حشر الشرف على هذا النحو، فهنيئا له هذا الشرف الوضيع. 
وثانياً، لنتوقف عن ترديد مقولة "أترضاها لأختك؟"؛ فهذه المقولة تنطلق من مفهوم مُلكية "الذكر" لكل نساء القبيلة، باعتبار أن هذا الذكر ممثل للفضيلة والأخلاق والشرف.. بينما النساء قاصرات، أو متهمات، أو في موضع شك، ويجب بقاؤهن تحت الوصاية..
وثالثاً، لنتوقف عن الادعاء الزائف بأننا "مجتمع الفضيلة"، وأننا "خير الأمم".. فهذه مقولات أيديولوجية، وشعارات براقة تكذبها آلاف الشواهد والوقائع كل يوم؛ فمن يغوص في العمق، سيسمع قصصا يندى لها الجبين، عن نساء قُتلن ظلما وبهتانا، وعن سفاح قربى، والتحرش الجنسي، والاغتصاب، والعنف الأسري، وإساءة للأطفال، ولذوي الاحتياجات الخاصة، وتعديات الجيران على بعضهم، وظلم ذوي القربى، ونساء حُرمن من الميراث، ومُنعن من حضانة أطفالهن، وعن فتيات أُخرجن من المدرسة، وعن زواج القاصرات، واغتصاب الأزواج لزوجاتهم. 
قبل أسابيع تمكنت وحدة حماية الأسرة في شرطة الخليل من إنقاذ فتى يبلغ من العمر 16 عاما، تعرض للضرب والتعذيب والاحتجاز من قبل والده، في مخزن قذر لا تتوافر فيه أدنى مقومات الإنسانية، مليء بالأوساخ وتفوح منه الروائح الكريهة، مدة خمس سنوات.. وهناك عشرات القصص لأطفال ونساء تم احتجازهن ضمن ظروف مهينة وقاسية ولسنوات طويلة.. هذه الجرائم لا يتنبه لها المجتمع، رغم فظاعتها.. ما يدل على أن المجتمع يفصّل معايير الإنسانية على هواه.
قصة "إسراء غريب" حزينة، ومفجعة، ومرعبة بكل المقاييس.. لا أود الخوض في تفاصيلها؛ ليس انتظارا لاستكمال التحقيقات، كما يطالب البعض، فالقضية واضحة: ثمة قتيلة، عليها آثار تعذيب، ولا بد من وجود قاتل.. ومن أراد تصديق مقولات "تلبيس الجن"، و"العفاريت".. فهو ليس مغفلاً وحسب، بل متواطئ مع القتلة، ومساهم في تضليل الرأي العام.
كنت أخشى وجود دائرة للرقية الشرعية تابعة للحكومة، لأن ذلك بحد ذاته كارثة، معناها أن المجتمع برمته ضحية، وليس "إسراء" فقط.. لكن "دار الإفتاء" في بيت لحم أكدت عدم وجود مثل هذه الدائرة. 
وطالما أنّ قصة الرقية الشرعية والجن الأزرق قد استحوذت على قطاع كبير من ملابسات القضية، فهذا يثير تساؤلات عدة عن مصدر مثل هذه الأخبار، وعن دور الإعلام، ودور الأجهزة الأمنية تجاه مروجي الأخبار الكاذبة، ودور النيابة العامة التي تأخرت كثيراً في كشف ملابسات القضية.
لنتجاوز قليلا تفاصيل قضية "إسراء"، فمسألة معاقبة الجناة من اختصاص القانون والجهات الرسمية، وليست من اختصاص الناس، ولا الكتّاب، مع صون حق الجميع بمعرفة مجريات القضية، لأنها قضية مجتمعية، وقضية رأي عام، ولا تخص "إسراء" وحدها؛ ولكن ليس لأحد الحق في اتهام أحد حتى يتبين الأمر. فمن يدافع عن حق ضحية عليه ألا يخلق ضحايا آخرين، وألا يشوه سمعة أحد.
مأساة "إسراء" تتكرر منذ مئات السنين، ضحاياها النساء بالدرجة الأولى، يشترك في قتلهن مجتمع مريض، ذو ثقافة شعبية مشوهة، مصاب بدائيّ الجهل والتصحر.. أو لنقل منظومة متكاملة من الإجرام: ثقافة تختزل الشرف، مجتمع ذكوري عصابي، كبت جنسي، قانون رجعي منحاز لثقافة متخلفة، مؤسسات مجتمعية متخاذلة.. على صعيد آخر، ثمة تناقض في الشخصية وازدواجية في المعايير؛ ففي مثل هذا الجو المريض سنلحظ غضبا شعبيا في العلن، وتواطؤا في الخفاء، هَبّة عاطفية تتعاطف مع الضحية، ولكن في الغرف المقفلة يتم تداول الإشاعات، وإنتاج القصص، وإثارة أسئلة ساذجة ومريضة، فما أن يسمع أحدهم بخبر مقتل فتاة حتى يطرح السؤال المعتاد: تُرى ماذا فعلت؟ وهنا يتم تجريم الضحية على الفور.. وعندما تأتي اللحظات الحاسمة، تظهر المواقف المائعة، والمطالبات بتخفيف العقوبة، والبحث في التفاصيل التي تميع القضية، وتعفي المجرم من جريمته، أو تخفف من وطأتها. 
ازدواجية المعايير ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي، حين طالب جمهورٌ غفير بقتل "المثليين جنسيا"، وإلقائهم عن أسطح العمارات.. أي عندما تكون دوافع الجريمة متناسبة مع عقلياتهم لا تصبح جريمة، أما إذا لم تمسهم شخصيا، ولم تهز ثقافتهم "الذكورية" فيمكن حينئذ إدانتها، والتعاطف مع الضحية.
إضافة لازدواجية المعايير، فإن الخطأ الآخر الذي يقع فيه كثيرون، اعتقادهم أن قتل النساء، مسألة تخص النساء فقط، وتحديدا الضحايا.. وأنّ نضال المرأة لنيل حقوقها مسألة نسوية بحتة.. هذه قضايا مصيرية تؤثر على كل المجتمع، وعلى الأجيال القادمة.. وهي مرتبطة بأقوى الصلات مع مشروعنا الوطني، ومع مستقبلنا، وانعتاقنا، وتحررنا من كافة أشكال الظلم والتخلف.
في إحصائية أوردتها الزميلة "ريما نزال" عن جرائم قتل النساء التي تمت تحت ما يُسمى «شرف» العائلة، تم توثيق 5 جرائم قتل في العام 2005، و8 جرائم في العام 2009، و26 في العام 2013، و29 في العام 2018، فيما وصل العدد في العام 2019 حتى تاريخه إلى 18 جريمة. 
كل هذه الجرائم وقعت في فلسطين، وفي هذا دلالات رمزية مخيفة: من المفترض أن الشعب الفلسطيني يمر في مرحلة تحرر وطني، ويناضل ضد الاحتلال.. ويبدو أن خطأ الثورة الفلسطينية القاتل أنها لم تنجح بالقدر الكافي في إدراج التحرر الاجتماعي في سياق التحرر الوطني.. لذا ظل المجتمع قبليا، بحميّة عصبية مغلقة وبدائية.. فالبعض يقسو ويتجبر بأشد درجات الغضب والبطش ضد النساء والأطفال والفئات الضعيفة، وإزاء أخطاء وممارسات بعضنا بحق بعض.
أوقفوا قتل النساء، وقتل الإنسانية، لعلنا نرتقي بإنسانيتنا ذات يوم.

الايام