هاني عوكل - النجاح الإخباري - مرةً أخرى لم تفلح الفصائل الفلسطينية التي شاركت في حوارات موسكو، قبل أيام، من الاتفاق على إجراءات حاسمة لإنهاء الانقسام الداخلي الذي مزّق وحدة الشعب الفلسطيني وهبط بإرادته إلى الحضيض، وحوّله من شعب الجبارين إلى مواطنين غارقين في تفاصيل الحياة المعيشية اليومية.

كان يفترض على هذه الفصائل أن تستثمر دعوة روسيا لعقد حوار فلسطيني- فلسطيني، بالاتفاق على إعلان موسكو الذي جرى سحبه أواخر فترة الحوارات لسبب يتعلق بفلسفة العمل الفصائلي القائمة على ثقافة "خالف تُعرف".

المشكلة أن الانقسام الداخلي لا يزال حاضراً إلى هذه اللحظة بعد أكثر من عشرة أعوام عليه، في الوقت الذي يتبدّل فيه المزاج الدولي وفي الوقت الذي تنشط المؤامرات لتصفية القضية الفلسطينية، ومع ذلك فإن أصحاب الانقسام ماضون في تحقيق أجندات خاصة على حساب الأجندة الوطنية.

ما الذي يمنع من توحيد الموقف الفلسطيني في روسيا والتوافق على إعلان موسكو؟ إذا لم تتفق الفصائل هناك، فهل ستتفق لاحقاً في القاهرة؟ وهل بالفعل كسرت الحوارات الجمود السياسي الذي يلف ملف المصالحة الفلسطينية؟

لقد دعيت الفصائل إلى روسيا في الوقت الذي تستضيف فيه وارسو مؤتمراً دولياً يناقش موضوع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفي الوقت الذي ينشط فيه مستشار الرئيس دونالد ترامب جاريد كوشنير لتسويق صيغة سلام أميركية يرفضها الفلسطينيون جملةً وتفصيلاً.

ثمة تحديات كبيرة تواجه الفلسطينيين وينبغي التعامل معها بحكمة ومنطق، أولها السياسات الإسرائيلية التي تعمل كل الوقت على استدامة الانقسام الفلسطيني وترحب بفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وثانيها المستوى الاستيطاني غير المسبوق الذي يستهدف ابتلاع الضفة الغربية إن عاجلاً أم آجلاً.

ثالثاً: الدور الأميركي الذي يوفر الدعم والحماية لإسرائيل، يشمل ذلك تسهيل امتلاكها أحدث الأسلحة المتطورة لبقاء تفوقها في المنطقة، وإضعاف القرارات الدولية التي تنتقدها ولا تقف إلى جانبها، والأهم من ذلك معاقبة الفلسطينيين والضغط عليهم للقبول بصفقات مشبوهة لا تخدم مصالحهم.

رابعاً: ينبغي استدراك أن إسرائيل تبحث عن أصدقاء من قريب أو بعيد، حتى أنها تلاطف الأعداء وتبحث معهم موضوعات حساسة من تحت الطاولة على أمل تحسين علاقتها بهم، ولذلك فإن توسيع عدد الأصدقاء يعني بالمقابل حشد الأنصار خلف السياسة الإسرائيلية التي تقلب الباطل إلى حق.

خامساً: ثمة شعور كبير عند العديد من دول العالم أن الفلسطينيين غير مؤهلين للحصول على دولة مستقلة، ويعزز هذا الشعور القول: إن لغة الانقسام الداخلي حاضرة كل الوقت بشكل أفقي وعمودي، ويتساءلون هنا: ما الحال الذي سيصل إليه الفلسطينيون لو كان لديهم دولة؟

سادساً: يلحظ أن الخزان الديموغرافي الفلسطيني يأخذ مؤشر النزول، والارتحال إلى الدول الغربية لم يعد يقتصر على الشباب والخريجين العاطلين عن العمل، بل هناك شريحة معقولة من الموظفين وميسوري الحال والكبار يغادرون، خصوصاً من غزة.

مع الأسف الشديد جرّب الفلسطينيون الفصائل في أكثر من حوار، وفي كل حوار كانوا يستخلصون النتيجة سلفاً، ولذلك يحدث أن تمر حوارات موسكو بشكل هادئ وبعيداً عن الاهتمام الشعبي وحتى بعيداً عن ضجيج التغطيات الإعلامية الواسعة.

أحد الدبلوماسيين الروسيين الذين شاركوا في حوارات الفصائل الفلسطينية، قال: إن النتيجة كانت مخيبة للآمال، لأن بلاده كانت تُعوّل على تحويل إعلان موسكو إلى ورقة تستخدم ضد الاحتكار الأميركي لملف التسوية.

مع ذلك يمكن القول: إن لدى روسيا خططاً لإفشال صفقة القرن التي تروج لها واشنطن، على اعتبار أن هذه الصفقة إذا مررت على الفلسطينيين فإنها مدخل للتأثير الأميركي أكثر في المنطقة، ومدخل أيضاً لتوسيع النفوذ الإسرائيلي في الشرق الأوسط.

في هذا السياق، لابد من الربط بين توقيت الدعوة التي وجهتها روسيا إلى الفصائل الفلسطينية، ومؤتمر وارسو الذي حشدت له الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن حوار سوتشي الذي يجمع ثلاثي أستانا: روسيا وتركيا وإيران.

حوارات الفصائل في موسكو سبقت مؤتمر وارسو الذي لم تشارك فيه السلطة الفلسطينية، وأيضاً لم تشارك روسيا ولا الصين وإيران ودول مثل فرنسا وألمانيا، لاعتبارات تخصها ولا تتصل بالموقف من صفقة القرن الأميركية، في حين عقدت قمة سوتشي التي تزامنت مع انطلاق أعمال مؤتمر وارسو.

وهنا يبدو واضحاً أن روسيا ترغب في توسيع دورها الدولي ومنافسة الولايات المتحدة على هذا الدور، سواء في ملفات ساخنة مثل سورية وأوكرانيا، أو عبر استمالة أطراف محسوبين على واشنطن مثل تركيا وحتى الفلسطينيين الذين وافقوا في السابق على أن ترعى واشنطن وتتوسط ملف التسوية السياسية.

وبحكم العادة نجد أن للكبار أجندتهم ومخططاتهم التي تلبي مصالحهم وتنعكس في طبيعة حركتهم، ونقارن بينها وبين الفلسطينيين الذين يُعمّقون الانقسام ولا يعترفون بحق الشعب الفلسطيني الذي يرفض الفرقة ويستحق العيش بالحد الأدنى من الكرامة.

هل من أجندة وطنية أو إستراتيجية واضحة للصمود أمام المشاريع والمخططات الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية؟ وفي حال وجدت كيف يمكن الصمود ضد الاحتلال في ظل غياب وحدة الحال والمصير وتفشي الانقسام في الفصائل وتجاوزه إلى عموم الناس؟

كل الحوارات لن تجدي نفعاً إذا لم تقدم الفصائل خططاً وبرامج للخروج من عنق الزجاجة وهذا المأزق الانقسامي الخطير، وإذا لم تنزل قليلاً عن "ثوابتها" إلى صيغ مقبولة تراعي خطورة الأوضاع وأهمية تداركها قبل أن "يقع الفأس في الرأس"، وهو واقع بطبيعة الحال.

العبرة ليست في حوارات روسيا ولا القاهرة، لأنها لن تقدم أو تؤخر في ملف الانقسام، وإنما الأَولى هو توفر الإرادة ومعالجة القضايا التفصيلية بالتدريج وصولاً إلى جوهر المشكلة، لكن كل ذلك مرهون بموقف القيادات من حل الانقسام.

ويبدو أن أكثر ما يقلق في راهن الحال الفلسطيني هو التركيز على الانقسام الداخلي، لأنه أصل المشكلة ومفتاح القدرة على تحصين الفلسطينيين وبث الروح فيهم لمواصلة نضالهم ضد المخططات الإسرائيلية العابثة.

الخشية كل الخشية أن تختصر القضية الفلسطينية في أذهان الناس إلى أغنية وطنية أو كتاب أو حتى خارطة لأهم المعالم والمدن. الخشية أن ينسى الجيل الجديد هويته الأصيلة للبحث عن هويات فرعية أو أخرى بديلة هرباً من الواقع. الخشية أن "يشرد" الفلسطينيون أو يصمّوا آذانهم، وتبقى قيادات الفصائل تُحاور نفسها.