الدكتور فوزي فهمي - النجاح الإخباري - رصد فرانك آدلوف أستاذ علم الاجتماع بجامعة برلين في كتابه - الذي بعنوان: المجتمع المدني النظرية والتطبيق السياسي- عجزًا ديمقراطيًا ما في أوروبا الموحدة، وأكد اطراد ازدياده، وتبدت النصيحة التي طرحت لمواجهة ذلك العجز الديمقراطي في ضرورة تقوية خريطة المجتمع المدني الأوروبي, إذ في إطار مجتمع مدني أوروبي عابر للقوميات، يمكن -فقط- بناء هوية أوروبية تجعل قرار الأغلبية أمرًا مقبولاً داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة في شأن الترويض، والنسيج الديمقراطي للتوسع المتسارع لإجراءات العولمة الاقتصادية التي تنفذه حكومات منحازة إلى حكم الأقليات المالية، حيث تؤخذ قرارات تلك الإجراءات في أماكن أخرى دون أن يكون للمواطنين أي تأثير في اتخاذها، ويفرض عليهم تنفيذها، وذاك ما يمثل إرغامًا، مشمولاً بالخسارات، وغيابًا للإنصاف والعدالة، ولأن المجتمعات المدنية الأوروبية مازالت محصورة داخل دولها القومية، لذا فإن الحال تستوجب شبكة مباشرة للمنظمات الأوروبية، وللرأي العام الأوروبي، سيكون لها التأثير الداعم بتشييد مجتمع مدني أوروبي تضامني مع واجبات وحقوق جماعية؛ إذ عندما تتسع مسافات الانفصال بين نظام حكم ديمقراطي ومجتمعه بالقطيعة مع حقوق أفراده وتعطيلها، ولا يصبح أحدهما مرجعًا للآخر، خروجًا عن شروط الديمقراطية وقيمها؛ عندئذ تواجه الديمقراطية أخطر مآزق عجزها، وذلك ما يعني تحديدًا غياب الديمقراطية لغياب قيمتها، ويعني بالتأكيد غياب المجتمع المدني أو محاولة تغييبه، وهو ما يعني افتقار المجتمع إلى الآليات، والحقول والمجالات التي تعزز الاشتغال الطوعي للمواطنين على قضايا المجتمع، بممارسة طرح الرؤى والنقاش، والمراقبة الإيجابية المشروطة بالوعي لمسارات الأحداث والقرارات والسياسات، والكشف عن مآلها المنظور.

أفصح الكاتب عن أن مشروع المجتمع المدني الأوروبي العابر للقوميات في مواجهته للعجز الديمقراطي، وتداعيات أزماته المدمرة اجتماعيًا واقتصاديًا الوثيقة الصلة بالعولمة، يستهدف أمرين، أولهما: إعادة اكتساب قدرة الفعل السياسية في مجال العولمة الاقتصادية، وثانيهما: بناء قوة سياسية موازية للتطلعات الأحادية للولايات المتحدة؛ إذ يؤكد أن المجتمع المدني يعد المجال النشيط الذي يحقق فيه المواطنون دورهم بوصفهم مواطنين، حيث من خلاله يتشابكون أفقيًا، ويعملون تضامنيًا، يمارسون الموافقة على المجال السياسي، أو يحتجون عليه، إدراكًا منهم أنهم المنتجون للقوانين التي تحكمهم بوصفهم مواطنين؛ لذا احتفى الكاتب بالوهج المبهر لاحتجاجات المتظاهرين ضد إجراءات العولمة الاقتصادية، المنطلقة بوعي جماعي كمواجهات إدانة غير مهادنة، لا تخدعها مداورات الحكومات؛ إذ بدأت عام 1999 في سياتل، وفي براغ عام 2000، وفي جنوا عام 2001 وامتدت من بعد ذلك زمنيًا ومتوالية، عبر مدن العالم، تشير إلى تشابك قوى المجتمع المدني على المستوى الدولي، في مقاومة الحكومات، وتصديها للشركات العابرة للقارات المتخصصة في نهب الخيرات.

إن ظاهرة تشابك قوى المجتمع المدني على المستوى الدولي، قد استوقفت أيضًا نورينا هريتس، التى تعمل فى جامعة كيمبرج بإنجلترا, إذ فى كتابها الذى يحمل عنوان السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية، وثقت علميًا للسيطرة الصامتة للعولمة على المجتمعات وخيراتها، عن طريق الشركات العابرة للقارات، التي تلقى جانبًا بالعدالة والإنصاف، والحقوق، والبيئة، حتى قضايا الأمن الوطني. تؤكد الكاتبة في رصدها أنه بينما كانت قوة الحكومة تذوب، وتفقد استقلالها، وتستسلم للشركات المسيطرة الدائمة؛ إذ بحركة سياسية جديدة بدأت في البروز، امتدت جذورها في الاحتجاجات التي لم تكن هناك حدود جغرافية تقيد دعاتها الذين يصلون إلى مليون عضو من مختلف منظمات المجتمع المدني غير الحكومية، بالإضافة إلى مجموعات تضم نوعيات مختلفة من أناس عاديين، حيث اختاروا الشارع لإعلان احتجاجاتهم، أو الإنترنت، أو الأسواق الكبيرة، وقد تناولت الكاتبة تلك الاحتجاجات تفصيلاً في جميع بلدان العالم التي تصدت لحكوماتها لانصياعها لإرادة الشركات الكبيرة التي غدت تمارس السياسة صراحة، حيث اعتمد السياسيون على الشركات الكبيرة لتمويل حملاتهم، وتوفير الوظائف التي يحتاجون إليها لكسب الانتخابات، وأصبح الناس متباعدين تباعدًا مطردًا عن السياسي.

كما أن السياسيين أظهروا أنهم أيضًا فقدوا الاتصال بالجمهور الانتخابي، وفي سياق هذه المتناقضات التي ترصدها الكاتبة، ما زال الناس يوهمون من حكامهم أنهم يعيشون في نظام ديمقراطي، وإن كان يصعب - حقيقة- اصطناع أي تطابق بينهما؛ إذ تفككت أسس الديمقراطية، وانقضى وجودها، لذا فإن الكاتبة تبلور دلالة تلك الأوضاع فيما سمته أيضًا العجز الديمقراطي. صحيح أن الديمقراطية ترتكز أساسًا على نظام الاستحقاق، الذي يحقق العدالة الاجتماعية التي تقوم على شرعية السلطة السياسية، من خلال قدرتها على توفير مساواة معينة في أوضاع المواطنين، تحقيقًا للعدالة الاجتماعية.

لكن الصحيح كذلك أن العدالة تجري محاربتها باسم الحرية، إذ نرى الاقتصادي والمنظر السياسي النمساوي والبريطاني، المناصر لليبرالية المتطرفة فون هايك 1899 - 1992، يرى أن العدالة الاجتماعية ليست لها أي شرعية في اقتصاد السوق، بل يؤكد أن العدالة الاجتماعية محض سراب فارغ من المعنى والمحتوى، بل إن المحاولات لتصبح السوق في اتجاه العدالة الاجتماعية، ولدت لا مساواة تحت اسم امتيازات جديدة، أكثر منها بلسمًا لمصير الفقراء، مما يدفعهم إلى طريق الاستعباد، لكن على الجانب الآخر نرى الفيلسوف والاقتصادي الهندي، أمارتيا سن، يطرح نظريته في التوفيق بين المساواة والحرية، التي تسمح للمجتمع العادل بجميع أفراده أن يختاروا نمط حياتهم، إذ المجتمع العادل ملزم بتقديم مجموعة واسعة من الاقتدارات المتنوعة للجميع، تحقيقًا لمفهوم الأحقية في العمل، انطلاقًا من أن المقدرة تعكس الحرية التي يتمتع بها فرد ما في اختياره بين أنواع الحياة الممكنة، وأنه لابد من معرفة مظاهر الظلم التي تتوقف على القيم السائدة والمصالح الغالبة، وأن العدالة لا تتحقق إلا بالديمقراطية.

لذا فإنه تعزيزًا للاستحقاقات الديمقراطية، تصدى الرئيس عبد الفتاح السيسي لغياب الاستحقاقات الإنسانية للمواطنين المصريين من أصحاب القدرات الخاصة، بوصف ذلك الغياب يعني عجزًا ديمقراطيًا، ينتج الاستبعاد أو التهميش، وأن مواجهة ذلك العجز تبدأ بإكساب هؤلاء المصريين قدرات بديلة وفقًا لإمكاناتهم، التي تحررهم من غياب التمكين الاجتماعي، فيصبحون محورًا لقوة إنتاجية بما يحقق أمنهم الإنساني، ويفعل مبدأ الأحقية في العمل، انطلاقا من أن الحرص على الاستحقاقات هو المدخل إلى الصحة العامة للمجتمع.

...عن «الأهرام» المصرية