عبدالله السناوي - النجاح الإخباري - بقوة الحقائق تقوضت أي احتمالات تسمح بمرور «صفقة القرن»، التي بمقتضاها يحصل الإسرائيليون على كل شيء ولا يحصل الفلسطينيون على أي شيء. طبيعة الصفقة حكمت عليها بالفشل الذريع. كان مطلوباً أن يسلم الفلسطينيون بأن القدس عاصمة أبدية وموحدة للدولة العبرية، وهذه مسألة دونها حمامات دم لا يعرف أحد آخرها، فللقدس رمزيتها الدينية التي يستحيل تجاوزها.

كان مطلوباً نوع من الإقرار بضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل، وهذه مسألة دونها صدامات حياة أو موت لأكثر من (2,5) مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية.‬‬

كان مطلوباً شطب حق العودة المنصوص عليه في القرارات الدولية، وهذه مسألة لا يملك أحد التصرف فيها بالنظر إلى أن هناك كتلة فلسطينية كبيرة تعيش في المخيمات ومناطق اللجوء، ويستحيل تصور أن تقطع صلاتها بجذورها في الأرض المحتلة.

وكان مطلوباً ربط أجزاء من شمال سيناء بقطاع غزة كأنه مشرط جراحي يتلاعب بالجغرافيا السياسية التاريخية لمقتضى المصالح الأمنية الإسرائيلية وحدها. لم يكن أحد في القاهرة مستعداً لمجرد الاستماع إلى ذلك الاقتراح، حسب موقع «ديبكا» الإسرائيلي. ثم كان مطلوباً كاقتراح بديل إنشاء مناطق صناعية في شمال سيناء لتوفير الوظائف لسكان غزة وميناء بحري لانتقال مواطني القطاع منه وإليه تحت إشراف قوات الاحتلال، وانتهى أمره إلى الفشل نفسه.

تكاد تتلخص «صفقة القرن» في خلق الحقائق على الأرض بالقوة واستبعاد أي مرجعيات دولية، أو جداول زمنية، مقابل وعود بتحسين شروط الحياة في قطاع غزة المحاصر وفصل مصيره عن القضية الفلسطينية.

استبقت الوعود ضغوطاً اقتصادية ممنهجة لجعل الحياة شبه مستحيلة مثل وقف المساهمات المالية الأمريكية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، وتعليق المساعدات المالية التي تقدم للسلطة الفلسطينية بموجب قانون «تايلور فورس»، الذي يمنع تقديم أي مساعدات يمكن أن تستخدم في دفع رواتب الأسرى ومنفذي العمليات.

في التوقيت نفسه، جرت عمليات قصف متواصلة لمواقع في غزة واستخدم الحد الأقصى من العنف المفرط والتقتيل المقصود ضد «مسيرات العودة» ومتظاهريها السلميين عند السياج العازل مع إسرائيل.

كان ذلك تعبيراً عن همجية القوة، التي تطلب الإذعان الكامل، وتهيئة البيئة العامة الفلسطينية لتقبل «صفقة القرن» بتنازلاتها المجحفة بكل حق إنساني، أو قانوني، أو تاريخي.

بقدر الاستفزاز العنصري تبدت قوة المقاومة الفلسطينية.البطل الحقيقي في إجهاض «صفقة القرن»، هو المواطن الفلسطيني داخل الأرض المحتلة. هو الذي تحرك وانتفض في القدس المحتلة مرة بعد أخرى، ألهمت صوره تعاطفاً دولياً، ودفع فواتير دم باهظة في مواجهاته بالصدور العارية أمام آلة الحرب الإسرائيلية.

وهو الذي وضع على الأرض الخطوط الفلسطينية الحمراء أمام كل الفصائل، وحركته سبقتها في كثير من المواجهات.

ليس بوسع أحد، أيّاً كان موقعه، أن يتنازل حيث يعرض شعبه المقاومة، وإلاّ فإنه انتحار سياسي.

يستلفت الانتباه هنا ما قاله رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس»، عندما طرحت «صفقة القرن» في الكواليس الدبلوماسية : «لن أنهي حياتي بخيانة». كان ذلك توصيفاً دقيقاً لحقائق الموقف في الشارع الفلسطيني. في الوقت ذاته، ليس بوسع أحد في العالم العربي، أيّاً كان حجمه، أن يتفاوض باسم الفلسطينيين.

هكذا تأكد أن مفتاح الموقف في الشارع الفلسطيني، وليس في أي مكان آخر.

راهن المخطط الرئيسي ل«صفقة القرن» على ضغوط عربية تعمل على تليين موقف «محمود عباس» لقبولها ووضع توقيعه عليها. لم يكن بوسع السلطة في رام الله، ولا حماس في غزة، ولا أي طرف فلسطيني ثالث أو رابع، أن تقبل بما هو معروض عليها مهما تعاظمت الضغوط من هنا، أو هناك.

بقوة الحقائق كان فشل «صفقة القرن» مدوياً. لا يعني ذلك توقف الكلام عنها، أو محاولة إدخال تعديلات عليها تعطيها مسحة سلام ما. غير أن غطرسة القوة تكفلت بإعلان الفشل المسبق لأي حديث عن مشروع سلام.

كانت الضربة الأخيرة «قانون القومية»، الذي صدر بأغلبية تصويت الكنيست. القانون عنصري ومعادٍ للديمقراطية ولأي احتمالات لبناء «دولة كل مواطنيها» داخل الخط الأخضر. عندما توضع الحقائق في حجمها الطبيعي دون تدليس عليها فإننا أمام ظاهرة عنصرية متفاقمة لا مثيل لها في العالم الآن.

الكلام عن السلام محض أوهام إلاّ أن يكون مقصوداً به، سحق الطرف الآخر ونزع أي إنسانية عنه. بقوة الحقائق يستحيل أن تفضي العنصرية، مهما بالغت واستبدت إلى كسب أي معركة أخلاقية، أو تمرير أي صفقة سياسية.

أول عامل فلسطيني يصون القضية من التبديد، وحدة المشاعر العامة وإدراك أن العذاب واحد والمصير واحد. وثاني عامل يحفظ للقضية مستقبلها، ولا تملك إسرائيل منعه وصده، كتلته البشرية داخل الأرض المحتلة.

حسب جهاز الإحصاء الفلسطيني تضاعف عدد الفلسطينيين نحو (9) مرات منذ (1948) إلى (2016).

وحسب تقديرات أخرى فإن أعدادهم على الأرض بكامل التراب الفلسطيني التاريخي ربما يكون في حدود (5,6) مليون نسمة. ‬‬إذا ما ضمت إسرائيل الأراضي المحتلة؛ فإن معضلتها الديموغرافية لا حل لها.

كل الاحتمالات والسيناريوهات تؤكد عدم قدرة إسرائيل على البقاء، بينما نحن نعطيها بالعجز والتخاذل أسباب القوة.

عن صحيفة "الخليج"