موسى برهومة - النجاح الإخباري - أشدّ ما لفت الانتباه في الحوارات التي احتضنها المنتدى الإعلامي العربي السابع عشر في دبي، هو اختلاف النبرة التفاؤلية المتسامحة مع أداء الإعلام العربي، فضلاً عن الجزم بأنّ الزمن الرقمي يتسارع بوتيرة جامحة ستزيل في طريقها الورق، وتجعله جزءاً من ذاكرة المتحف. الأرقام هي التي تقول ذلك، وليست الأمنيات.

خضع الإعلام العربي، في أكثر من جلسة في المنتدى، للتشريح، فشقّت مباضع الكشف والتحليل مناطق الخلل في هذا الإعلام الذي ثبت، بحسب متحدثين، أنه عاجز عن الاستشراف، بدلالة إخفاقه في وضع تصوّرات لمستقبل الأزمة السورية، وطبيعة التحولات في العلاقة التركية - الإيرانية، ووقوعه في أسر الانخطاف لـ «البروباغندا» السياسية على حساب الوقائع الصلبة على الأرض. الإعلام، وفق هذا التحليل، كان غائباً عن الحدث، وبدا ناقلاً سريعاً لما يحصل على الأرض، من دون الذهاب خطوة إلى الأمام باتجاه الاستشراف، وقراءة موازين القوى، وتوقع حزمة متنوعة من الخيارات والبدائل.

ولعل ما يفسر هذا التثاؤب الإعلامي أنّ إيقاع تداول الأخبار مع وجود منصات التواصل الاجتماعي، والرغبة في تحقيق سبق صحافي، قد جعلت مركز الثقل يذهب إلى النشر السريع، وملاحقة التداعيات الآنية من دون الانتباه إلى ما وراء الأخبار. أضف إلى ذلك سرعة الحوادث التي تعصف في وقت واحد أحياناً في أكثر من مكان في العالم، ما يجعل ماكينة الإعلام تلهث متقطّعة الأنفاس وراء التغطية التي تسرق منها فسحة التأمل والتحليل.

وقد أوقعت هذه السرعة التي صارت في بعض الأحيان رديفاً للتسرّع، وسائلَ الإعلام في التخبّط ونشر أخبار كاذبة (fake news)، ولم تسلم من ذلك وسائل إعلام راقية وعريقة. ولا يحجب ذلك أنّ ثمة صحافيين امتهنوا فبركة الأخبار، فصاروا جزءاً من الأبواق الدعائية لهذا الطرف وذاك، وتحول الإعلام إلى ميدان للردح وتوزيع الشتائم والاتهامات، وصار التخوين يُطلق مثل الرصاص الطائش في جميع الاتجاهات.

وبسبب أداء الإعلام العربي الذي غرق في وحل الاستقطاب، لم يستطع هذا الإعلام أن يؤثر في مجرى الحوادث الدولية، ولم يتمكن من أن يحجز لنفسه مكاناً في حزمة الإعلام العالمي الذي يعاني هو الآخر من مشكلات بنيوية عميقة، لكنه ما زال محافظاً على الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية والمهنية.

بعض المتحدثين في المنتدى جدّد مفهوم «القوة الناعمة» للإعلام، كما فعل فواز جرجس الذي ذكر أنّ العمود الفقري للقوة الناعمة يعتمد على ثلاثة عناصر هي الشرعية والمشروعية والنموذج. وبسبب انعدام هذه العناصر أخفق الإعلام العربي في تطوير نموذج جذاب من القوة الناعمة. وظلت «القوة الخشنة» هي المهيمنة على المجال العام، فصار الإكراه بديلاً من الإقناع، وحلت «البروباغندا» مكان النزاهة، وصار الإعلامي العربي اصطفائياً بامتياز، يذكر ما يطابق موقفه أو موقف منبره، ويخفي إلى حد الطمس الآراء المخالفة؛ فسادت الرغائبية، لا سيما لدى من يزعمون قدرتهم على التحليل، ويُستضافون بوصفهم «خبراء» مع أنّ وظيفتهم تنحصر في إسماع مضيفيهم ما يحبون سماعه، وهكذا دواليك.

ومع أنّ المستقبل يَعِد بتحولات قريبة في بنية الإعلام، لمصلحة الالتحام في الفلك الرقمي، وإعلان وفاة الصحافة الورقية، فإنّ هذه المرحلة، التي تحمل سمات الحداثة، تحمل في طياتها أيضاً سمات الفوضى، لأنّ غالبية الصحافيين العرب غير مؤهلين لدخول هذه المرحلة، ما يجعل الباب مفتوحاً أمام جيل من «صحافيي الأنابيب» الذين لا يملكون المعرفة ولا المهارة في كتابة الأخبار وإدارتها، ما يهدّد مستقبل الإعلام العربي، ويفاقم مشكلاته، ويجعل الإعلام، كما كان يتردد سابقاً بهزء واستنكار، مهنة مَن لا مهنة له»!
* كاتب وأكاديمي أردني