غزة - النجاح الإخباري - لا يوجد مكان في غزة لم تطله القوة التدميرية للاحتلال وقصفه العنيف، لكن لم يكن هناك مكان تعرض للدمار الكامل أكثر من جباليا، المدينة التاريخية القديمة التي بعد النكبة عام 1948 منحت اسمها للمخيم الذي نمى على خاصرتها، ليصبح من أكبر المخيمات في الأراضي الفلسطينية، فسكنه قرابة 200,000 مواطن، بمن فيهم أكثر من 100,000 لاجئ مسجلين رسميًا، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
يلخص المخيم قوس الصراع مع الاحتلال، فقد ولد في نهاية حرب ودمر في حرب أخرى.
لم يصف أحد جباليا بأنها جميلة، خاصة المخيم نفسه، لكنه كان دائمًا قطعة نابضة بالحياة من الحياة الفلسطينية: الصلوات في مسجد العودة، وتناول الشاورما عند دوار الشهداء الستة، والاغاني في قاعة بغداد للأفراح.
والمتسوقون يسافرون من جميع أنحاء غزة إلى السوق المزدحم بالمخيم، يجذبهم أسعاره الرخيصة وكذلك الآيس كريم والكعك من متجر الزيتون الشهير، في قلب السوق.
كان مبنى الحلويات الشرقية "القاضي" المكون من ثلاثة طوابق، الذي يبيع المعجنات بما في ذلك البقلاوة الشهيرة المحشوة بالفستق، عامل جذب آخر للمواطنين من كافة أنحاء قطاع غزة، ويجتمع المواطنون لحفلات أعياد الميلاد في قاعته، بينما كان الآلاف يطلبون مسبقًا أطباق المعجنات للاحتفال بنتائج امتحانات الثانوية العامة.
أما نادي خدمات جباليا الرياضي فشكل مركزاً لعشاق كرة القدم في غزة، حيث استضاف المباريات المحلية، بينما كان مقهى الرباعية القريب يعرض مباريات تتراوح بين دوري أبطال أوروبا والدوري المصري الممتاز. وكان الفنانون يغنون ويعزفون على العود في ليالي الموسيقى في المقهى.
"تطهير عرقي"
هجوم الاحتلال على جباليا ومعها بيت حانون وبيت لاهيا المجاورتين كان شرساً وانتقامياً بدرجة كبيرة، لدرجة أن وزير الحرب الإسرائيلي السابق موشيه يعلون وصف أفعال الجيش الإسرائيلي في شمال قطاع غزة أواخر العام الماضي بأنها "تطهير عرقي"
وقال يعالون: "لا توجد بيت حانون، لا توجد بيت لاهيا، إنهم [الجيش الإسرائيلي] يعملون حاليًا في جباليا، وبشكل أساسي ينظفون المنطقة من العرب".
وبعدما واجه إدانات لتعليقاته، أصر على موقفه، وأخبر مذيعًا آخر أن "هذا تطهير عرقي – لا توجد كلمة أخرى لذلك".
وتصف صحيفة "فاينانشيال تايمز" التي أعدت تقريرًا تفصيلاً عن الدمار في جباليا بأن ما تبقى من المخيم "أنقاض" فقط.
وتشير إلى أنه من الجو أصبح مخيم جباليا للاجئين الآن فدادين من الأنقاض بقدر ما يمكن للطائرات بدون طيار أن ترى، حيث دُفنت شوارعه التي كانت تعج بالحياة تحت حطام عشرات الآلاف من المنازل.
وعلى الأرض، لا يمكن تخيل مدى الرعب، وفقًا لما قاله إبراهيم الخرابيشي، وهو محامي رفض مغادرة جباليا، وبقي مختبئاً هو وزوجته وأطفاله الأربعة في زاوية من منزلهم، وكان يتهرب من المسيرات الإسرائيلية بين الفينة والأخرى للحصول على بعض الطعام للبقاء وعائلته على قيد الحياة.
وقد وصف للصحيفة هول المشهد حينها بالقول: "نرى جثثًا لا يجرؤ أحد على إزالتها بقدر ما يمكن للعين أن ترى. ونسمع الجرحى يستغيثون وبعضهم يموت".
وأضاف: "من يشعر بالشجاعة الكافية للذهاب لإنقاذهم يسقط بجانبهم، ثم نسمع صوتين يستغيثان بدلاً من واحد".
أما الشاعر مصعب أبو توهة في بيت لاهيا القريبة، فهرب أولاً إلى مصر، ثم إلى سيراكيوز، نيويورك، ولم يتبق له لينقله إلى أطفاله سوى القصص.
دُمرت مكتبته التي تضم عدة آلاف من الكتب بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية.
وكتب في إحدى قصائده: "أترك باب غرفتي مفتوحًا، حتى تتمكن الكلمات في كتبي من الفرار عندما تسمع القنابل".
وهو يقول: "نُدفع بعيدًا أكثر فأكثر عن وطننا وعن الذكريات التي يجب أن نحافظ عليها".
ويضيف: "بالنسبة لنا، الآن بعد أن دُمر هذا المخيم، فإنها أيضًا تدمير لتاريخ اللاجئين الذي دام حوالي 76 عامًا".
مكان في التاريخ
وجباليا تحمل مكانة بارزة في تاريخ الصراع مع الاحتلال، ففي عام 1987، اندلعت الانتفاضة الأولى من أزقتها المكتظة بعد أن صدم سائق شاحنة إسرائيلي ثلاثة فلسطينيين من المخيم وقتلهم، ما أطلق العنان لعقود من الغضب المكبوت ضد الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.
ولكن نموها الكثيف والفوضوي من مخيم مؤقت بعد حرب 1948 إلى بقعة من بيوت خرسانية متلاصقة في مساحة لا تتجاوز كيلومترين مربعين، كان تذكيراً دائماً في "حق العودة" إلى منازلهم المحتلة عام 1948 فيما يسمى الآن بإسرائيل.
بحلول الوقت الذي وُلد فيه الحاج عليان فارس في عام 1955، كان المخيم قد بدأ في التبلور.
قامت وكالة الأمم المتحدة للفلسطينيين، الأونروا، ببناء منازل صغيرة، لا تزيد مساحة الغرف فيها عن ثلاثة أمتار مربعة.
وكانت العائلات بأكملها تكتظ فيها، والمنازل لم يكن بها مراحيض وكان المواطنون ينقلون المياه من صنابير بعيدة.
الآن، وقد نُزح إلى أنقاض مخيم آخر، يمتلك فارس، البالغ من العمر 69 عامًا، حلمًا واحدًا: إذا انسحبت إسرائيل يومًا ما، سيقيم خيمة فوق أنقاض منزله ويعيش هناك حتى يُعاد بناء جباليا.
يروي الحاج فارس لصحيفة فاينانشيال تايمز: "مخيم جباليا هو مدينتي، هو مسقط رأسي. كل ما يخصني موجود في جباليا"، وأضاف وصوته يكاد يضيع بسبب طائرة إسرائيلية بدون طيار: "سأشعر بالغربة في أي مكان خارج جباليا".
وستسمح قوات الاحتلال لمواطنين شمال قطاع غزة بالعودة هذا الأسبوع في حال تمت المرحلة الثانية من صفقة التبادل دون عقبات، لكن من سيعود سيجد نفسه أمام مشهد دمار غير مسبوق، حيث شن الاحتلال عدة هجمات متكررة على مدن شمال القطاع بحجة منع حماس من إعادة بناء نفسها، وقد قتل أكثر من 50 جندياً إسرائيلياً في الأسابيع الأخيرة في تلك المواجهات، بينما ألحق القصف الإسرائيلي الدمار في كل مكان، وسقط نحو 2500 شهيداً وفقاً لإحصائيات وزارة الصحة في غزة، لكن مع ترك العديد من الجثث لتتحلل في الشوارع - وبعضها أكلتها الكلاب الضالة - يعتقد المسؤولون في غزة بأن العدد الحقيقي للضحايا ضعف ذلك.
وقال الأطباء إن المستشفى الوحيد الذي لا يزال يعمل بالكاد، وهو مستشفى الإندونيسي.
المجاعة
وبالإضافة إلى الدمار منعت إسرائيل دخول الطعام والشراب لشمال القطاع لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وقال توم فليتشر، رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، على منصة X، إنه بين أكتوبر ونهاية ديسمبر قامت الوكالات الإنسانية بمحاولات 140 للوصول إلى المدنيين المحاصرين، لكنها واجهت "وصولاً شبه معدوم".
ونفي جيش الاحتلال تنفيذه لما يسمى بـ "خطة الجنرالات"، التي اقترحها مستشار الأمن القومي السابق جيورا إيلاند، والتي تتضمن إخلاء شمال غزة بالقوة ومنع المساعدات الإنسانية.
ومع ذلك، قال مسؤول إسرائيلي كبير إن شمال غزة "لن يبدو أبدًا كما كان".
وأضاف المسؤول: "يمكنك أن تسميها منطقة عازلة، أو أرضًا زراعية، أو أي شيء آخر، ولكن سيكون هناك المزيد من الفصل [الجغرافي] بين المجتمعات الإسرائيلية والمدن الفلسطينية".
يقول عمال الإغاثة إنه لا يمكن أن يكون هناك أكثر من بضعة آلاف من الأشخاص الباقين.
ويرفض بعض المواطنين بعناد طردهم من أراضيهم، والبعض الآخر فقراء للغاية أو مرضى لدرجة أنهم لا يستطيعون التحرك، ويتنقل البعض بين المستشفيات التي بالكاد تعمل، على أمل أن يوفر لهم وضعهم المحمي بموجب القانون الدولي بعض الأمان الضئيل.
كان عبد أبو غسان يحتمي في مدرسة قرب المستشفى الإندونيسي. ويقول إنه كان طوال اليوم يسمع دوي المدفعية والانفجارات بينما كان سلاح الهندسة التابع لقوات الاحتلال يدمر صفًا بعد صف من المنازل، حيث قام العديد من الجنود بنشر مقاطع فيديو عبر الإنترنت تظهر عمليات الهدم، وهي مشاهد حاول الجيش الإسرائيلي الحد منها.
تفاخر في الإبادة
في بعض المقاطع، يظهر جنود الاحتلال يضحكون، ويشغلون الموسيقى ويرقصون بينما تدمر التفجيرات الموجهة المنازل.
وقد نددت جماعات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة العفو الدولية وخبراء الأمم المتحدة، بتدمير إسرائيل للممتلكات المدنية، قائلين إنه ما لم يخدم ذلك غرضًا عسكريًا واضحًا، فقد تكون هذه الأفعال انتهاكًا للقانون الدولي.
وزعم جيش الاحتلال بأن إجراءاته في غزة وجباليا كانت "ضرورية لتنفيذ خطة دفاعية توفر أمانًا محسّنًا في جنوب إسرائيل".
وأشار إلى أن عملياته في جباليا ركزت على القضاء على ألوية شمال غزة التابعة لحماس، والتي كانت "تستغل المراكز المدنية بشكل منهجي".
من داخل جباليا، يبدو الرعب مضاعفًا بسبب الطبيعة الصناعية للدمار. وقال أبو غسان إن أحياء بأكملها قد سويت بالأرض: الفاخورة، الفلوجة وأبو شريف.
"بقيت على الرغم من المجاعة"، قال أبو غسان لفاينانشيال تايمز وسط الانفجارات: "نحن أهل الشمال نحب هذا المكان، لكن الوضع أصبح كارثيًا: الجوع، الخوف، وتدمير كل مبنى".
بعد عشرة أيام من حديثه مع الصحيفة، قالت عائلته إن عبد أبو غسان استشهد بعد استهدافه من جنود الاحتلال في بيت لاهيا التي أحبها، وبقيت جثته تحت أنقاض شمال غزة الذي رفض التخلي عنه.