عاصف نوفل - النجاح الإخباري -  

قرَّرت منذ قليل أن أكتب قصة قصيرة عن أخر تسع ثواني من أصل (45) دقيقة من الحديث المتواصل من وراء الفاصل الزجاجي، وعلاقته بالصورة.

المكان سجن ريمون وبرقة، وكان الزمان في التاسع من أيلول عام (2017)، الأشخاص، سليم الحجه "ابوعمر"، زوجته، وابنه عمر، أمّا أنا فلست الشاهد الوحيد، لكن بإمكانك القول أنا الوحيد الذي استثارني الموضوع.

 

في التاسع من أيلول، عند الساعه السادسة صباحًا خرجت أنا وأمي باتِّجاه حاجز الطيبة، الذي تتوقف عنده باصات الصليب الأحمر المخصصة لنقل أهالي الأسرى؛ تقّلهم لزيارة ذويهم في سجون الاحتلال، صعدنا نحو الحافلة وإلى جانبنا الحاجة أم عمر، وابنها الذي لم يبلغ السادسة عشرة من عمره، دار بيننا حديث مطوَّل، كطول الطريق من بيتنا الى زنزانة والدي، حدَّثني عن تجارب الحياة، وكيف تسير معنا الأمور بعدما اختفى المعيل وسند الأسرتين، والدي الأسير أشرف نوفل، و والده الأسير سليم الحجة.

ثلاث ساعات أكلت الطريق من وقتنا حتى وصلنا مشارف السجن، تسلل الاشتياق من القلب إلى العيون ثمَّ إلى جميع الجوارح والحواس فبدا ظاهرًا على كلِّ من حضر، تُنغِّصه تنكيلات السجَّان، والتفتيشات المهينة على أبواب السجن، ولقاء عاجل من وراء زجاج عازل، وهاتف مهترئ يسري فيه صوتنا ليصل قلوب الأحبَّة كوحدة دم منعشة، ولا بأس بتلصص المحتل على عواطفنا!

 (45) دقيقة كل ما نملك من أمل، تشحن عاطفة الأسرى شهرًا كاملًا.

هذه الزيارة لها طعم آخر،  فاللقاء سيكون مباشرًا، وسنتمكن من أخذ صورة جماعيَّة بحضرة الشوق والحنين، لحظات يتوقَّف فيها الزمن ثواني تزدحم في الذاكرة لآخر العمر.

عمر.. فتى بأحلام بسيطة، رقصة الفرحة في وجهه إذ يقبل جبين والده للمرَّة الثانية من اثني عشرة سنة!

دخل السجان، نادى على الاسماء، نادى على ام عمر..

 

عمر يتأهَّب تأكل اللحظات في قلبه ووجهه ينتظر، الأسماء تمر، انتهت القائمة لم ينطق اسم عمر، يهرع ووالدته ويعلِّق قلقه على كتف ذلك السجّان، بنبرة متوسّلة:"راجع الأسماء يمكن اسم عمر معهم" ردَّدت الأم..

- يمكن سقط سهواً ؟!

- حجه، ما في شي بسقط سهو عنا.

- كيف ما في شي بسقط  ابني ما بدو يتصور؟

- لا لا، ابنك ما سقط سهواَ، بس ما في إله صورة.

-وإذا بتضلي تنقي على راسي، ما في إلك صورة كمان.

سكن الهلع ملامحها والقهرأشعل سيجارة من أعصابها، قالت ببؤس: " أمري لألله، بتصور لحالي".

أمَّا عمر فلاذ بالزاوية يداري دموعه التي انهمرت يحاول اقتلاع الغصة التي بزغت في حلقه.

مشهد آلمنا جميعًا، فخيَّم صمت مطبق ليرسم صورة واقع مرير، لاتجدي معه الكلمات!

انتهت الزيارة، صعدنا نحو الحافلة، وأنا في طريق العودة ضجَّت الأفكار في رأسي حدَّ الألم، وحضرت أخر 9 ثواني بتلك الزيارة بقوَّة.

تسع ثوانٍ تناقصت لتقتل الوداع، ومشهد أم عمر التي خرجت باكية بعد لقائها مع زوجها لأوَّل مرَّة منذ خمسة عشر عامًا ونيِّف وجهًا لوجه.

تستهلكني الذكريات، عجلات الحافلة تدرج والافكار تدرج في رأسي، نفس المشاهد، تتغير البنايات، ولوحات الدعايات، ويقفز عمر إلى ذهني، بماذا تراه يفكِّر؟!

وصلنا على حاجز الطيبة، وبدأنا النزول من الحافلة، كقطيع أغنام نسير في سرداب مخصص لنا، ليس بإمكانك أن تتزحزح منه إلا بالتعليمات المكتوبة على الحائط، إذا لاح في رأسك التمرد ينتهي بك الأمر في إحدى غرف التوقيف، وإذا خرجت بسلام تتلقفك كلمة واحدة:" تاكسي, تاكسي, تاكسي ".

توجَّهت أمي نحو إحدى المركبات، وطلبت منه أن يوصلنا إلى ديرشرف، وللصدفة كانت أم عمر بجانبنا، صعدت معنا كونها من برقة القريبة علينا، ألح عليَّ سؤال قد يوقف دموع عمر التي استمرت بالنزول، بدت الحسرة على ملامحه، هذا ما تفعله أحزاننا عندما تقتلنا، ترافق جثثنا إلى مثواها، تنام على الوسادة، تنام وتصحو معنا، وتأكل وتشرب وتغفو في العيون.

خلعت كلَّ هذه المواضيع جانبًا، تذكرت جوعي وعطشي، والإرهاق الذي يلفني، متى سأصل المنزل وألقي بجسدي المنهك على الفراش؟!

 وصلت وأكلت وشربت ونمت وعمر يلازمني، يحمل بين كفيه أحلامي وكوابيسي، أتساءل، أيُّ حلم هذا الذي يذهب بحال سبيله؟!

نهضت، وخرجت من المنزل, سارت بي قدماي نحو برقة، لمنزل سليم الحجة ابو عمر، طرقت باب منزلهم وسألت أم عمر على عجل، ما إن فتحت أم عمر الباب حتى دلقت أسئلتي بوجهها..ما حدث في ريمون؟ كيف لهذا الحزن أن يسيطر طفل فيقصي ألعابه وكرة القدم، وأقرانه، وأحلامه؟!

- أم عمر.. عمر وليد لحظة الثقة والأمان بعد خمس سنوات من مطاردة سليم، انتظر أعوامًا على أمل صورة تجمعه بوالده، كحق لطفولته المصادرة، أحس بالهزيمة بالظلم لمَّا شاهدني بجانب والده، ابتسم ابتسامة كاذبة، فقلبي كان يبكي، وضع سليم يده على كتفي تاركًا مكانًا فارغ يتَّسع لعمر.