عاطف شقير - النجاح الإخباري - لقد رحل الرئيس الشهيد أبو عمار بعد ان خاض جولات الحرب والسلام مع اسرائيل، فجولات السلام التي خاضها مع الاسرائيليين تنم عن عقلية المطالبة بحقوق شعبه عن طريق السلام.

لقد كرس الرئيس الشهيد أبو عمار حياته محاربًا من اجل السلام "سلام الشجعان" ولكن الاسرائيليين خانوا السلام..

رحلة السلام ...

و في 13كانون الأول/ديسمبر 1988 اجتمع ممثلو 159دولة عضو في الأمم المتحدة ـ بينهم 50 وزير خارجية ـ في جنيف واستمعوا إلى ياسرعرفات لنحو ساعة ونصف عن مبادىء خطة السلام الفلسطينية والمؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط،واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين الأول حول التسوية السلمية للقضية الفلسطينية بأغلبية 138صوتا مقابل صوتين هما إسرائيل والولايات المتحدة ،والثاني يقر إعلان الاستقلال الفلسطيني،وغيرت تسمية منظمة التحرير الفلسطينية في هيئاتها إلى فلسطين.

وعقد عرفات في اليوم التالي مؤتمرا صحافيا في جنيف ليوضح فيه قبوله بنقاط ثلاث طلبها وزير الخارجية الاميركي جورج شولتز من الفلسطينيين بواسطة وزير الخارجية السويدي ستين اندرسون في وثيقة سرية مفادها"إن الولايات المتحدة تلتزم بفتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينيةإذا أعلن عرفات بوضوح تام الموافقة على القرار 242 وعلى حق إسرائيل في الوجود، وعلى نبذ الإرهاب.وفعلا بدأ الحوار الأميركي ـ الفلسطيني بعد ذلك. ومع إعلان الرئيس الأميركي رونالد ريغان أن مثل هذا الحوار يشكل خطوة مهمة في عملية السلام ،اعتبر عرفات أنه حقق نصف انتصار.

انتخب المجلس المركزي  ياسر عرفات كأول رئيس لدولة فلسطين في نيسان/أبريل1989.

وتابع عرفات هجوم السلام الذي يشنه على إسرائيل، لكن رئيس وزرائها اسحق شامير بقي على تعنته ورفض إجراء أي حوار مع المنظمة .وحتى عندما قال عرفات كلمته الشهيرة "كادوك" أي"عفا عليه الزمن "عن الميثاق الوطني الفلسطيني يوم 2أيار/مايو 1989 في باريس أثناء أول زيارة يقوم بها عرفات لدولة غربية من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن ،عبر شامير عن انزعاجه قائلا  " يجب أن يختفي ياسر عرفات من الساحة السياسية،كل ما أريد معرفته هو متى سيغادرها؟"

ولكن عرفات لم يغادر الساحة السياسية ، بل على العكس، زاد من النشاط السياسي الفلسطيني وضاعف بنفسه ومن خلال مساعديه من الاتصالات مع الإسرائيليين المؤيدين للحقوق الفلسطينية والمصنفين ضمن معسكر السلام .

واستمر الحوار الاميركي ـ الفلسطيني وعقدت في إطاره عدة جلسات و لكن الحوار توقف في وقت لاحق عندما طلبت واشنطن من عرفات عزل  محد أحمد فهد  "أبو العباس"زعيم جبهة التحرير الفلسطينية  من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الأمر الذي رفضه عرفات.وقد جاء الطلب الأميركي على خلفية قضية اختطاف السفينة "أكيلي لاورو " ومقتل مواطن اميركي على متنها في العام 1985.

مؤتمر مدريد للسلام
مع انتهاء حرب الخليج في 1991أصبح  الوضع صعبا واعتبر عرفات أن الأمة العربية هي الخاسرة وأن إسرائيل هي الرابحة بعد هزيمة العراق وتدمير الكويت وانهيار النظام العربي، والذي جاء متزامنا مع انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، دفع عرفات والفلسطينيون ثمن ما رأه الكثيرون وقوفا إلى جانب العراق.

وجاءت صيغة المشاركة في المؤتمر الدولي للسلام على حساب الفلسطينيين.اضطر عرفات وبموافقة المجلس الوطني الفلسطيني في دورته العشرين في أيلول/تموز1991في الجزائر إلى قبول  صيغة المشاركة الفلسطينية ضمن وفد أردني ـ فلسطيني مشترك يشارك فيه فلسطينيون من سكان الأرض المحتلة مع استثناء سكان القدس. 

واعتبر عرفات أن أحد أحلامه يتحقق عندما افتتح العاهل الاسباني الملك خوان كارلوس "مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط"في 20 تشرين الثاني/نوفمبر1991 بمشاركة الفلسطينييين برعاية الرئيسين الأميركي جورج بوش "الأب" و السوفييتي  ميخائيل غورباتشوف.

صحيح أن منظمة التحرير استبعدت من المشاركة بشكل مباشر فيه إلا أنها كانت المرة الأولى منذ العام 1948 التي يكون فيها الفلسطينيون شركاء  في المفاوضات مع إسرائيل.

شارك الفلسطينيون ضمن وفد أردني ـ فلسطيني مشترك، وكان عرفات الغائب الأكبر عن المؤتمر لكنه كان حاضرا من خلال الوفد الفلسطيني الذي اختار هو أعضاءه. وبالنسبة له كان عرفات يعتبر أن الوفد الفلسطيني يمثل منظمة التحرير، وكانوا يتلقون التعليمات منه من مقره في تونس وكان يقول"لن يتم شيء بدون موافقتنا". 

وبعد مؤتمر مدريد انتقلت المفاوضات بين الوفد الإسرائيلي والوفد الأردني الفلسطيني المشترك إلى واشنطن.
في الثامن من حزيران/يونيو1992 وأمام عدسات الكاميرات وأعين الصحافيين، استقبل عرفات في عمان أعضاء الوفد الفلسطيني لـمباحثات واشنطن مسجلا بذلك نصرا عظيما.

لـم يتأخر الرد الأميركي،وأعلن الناطق بلسان الخارجية في اليوم التالي أن : منظمة التحرير ليست جزءاً من عملية السلام التي بدأناها. وإننا نشعر بالقلق من اللقاء الذي جرى بين ياسر عرفات والوفد الفلسطيني، وقد اطلعنا الجانب الفلسطينيى على ما نشعر به. شجبت إسرائيل بدورها ما اعتبرته محاولة استفزاز، وأعلن رئيس الوزراء الجديد اسحق رابين أن: هذا اللقاء يتناقض مع الالتزامات التي قطعها الفلسطينيون ومع الاتفاقيات التي عقدت مع عرّابي عملية السلام، و سوف تتخذ الإجراءات القضائية اللازمة بحق الذين التقوا عرفات.

أما عرفات فقال وهو يبتسم : بلقائنا، نحن لـم نفعل سوى أن وضعنا النقاط على الحروف!  

راوحت مفاوضات واشنطن في مكانها، بينما تواصل الاستيطان الإسرائيلي على قدم وساق. ما الذي كانت تعنيه عملية السلام بالنسبة لإسرائيل؟ كان الوفد الإسرائيلي يقوده الـمتصلب إلياكيم روبنشتاين، وهو سكرتير سابق لشامير، الذي لـم يكن يعتزم التنازل عن شيء. في الجولة الرابعة لـمحادثات واشنطن، هدد رئيس الوفد الفسطيني حيدر عبد الشافي بقطع الـمفاوضات إن لـم يصدر قرار بتجميد الاستيطان في الأراضي الـمحتلة، وهو ما يرفضه الإسرائيليون قطعا. وبرغم ضغوطات عرفات، الحريص على مواصلة الـمباحثات، أعلن عبد الشافي انسحابه أثناء الجلسة السابعة، في تشرين الأول/أكتوبر  1992، غير أن ضغوط عرفات والـمظاهرات التي تجمعت أمام بيته حملته على التراجع عن قراره والعودة إلى قاعة الـمؤتمرات. 

وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1992 زار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إسرائيل وقال أمام قادتها وفي مؤتمر صحافي :منظمة التحرير الفلسطينية هي الـمحاور الوحيد الـممكن ،واستنادا إلى الاتصالات القليلة التي أجريتها مع فلسطينيين آخرين، خلصت إلى أنه لا توجد قوة حقيقية غير "م .ت .ف" تلوح في الأفق السياسي، حتى إشعار آخر.  طالـما تتجاهل إسرائيل" م .ت .ف"، لن تكون هنالك مفاوضات مثمرة مع الفلسطينيين، أظن أن ثمة دولة فلسطينية قد اعترفت بها الأمم الـمتحدة حين تأسست دولة إسرائيل. إحدى هاتين الدولتين تم انشاؤها بقوة وشجاعة،  أما الدولة الأخرى فظلت معطلة. يبدو لي أن من الصعب أوّلا أن يعيش شعب بلا وطن، ثم أن يعيش شعب في وطنه بدون مؤسسات وهياكل خاصة به تؤدي طبيعيا إلى تشكيل دولة. 

في تلك الأثناء، كانت تسود الجانبَ الفلسطيني حالة من السخط الـمتزايد بسبب ركود الـمفاوضات. فطالب قسم من الـمعارضة ومعهم  أعضاء من "فتح"، بوضع حد لهذه الـمباحثات العقيمة. وما لبثت أن صدرت عريضة وقع عليها أكثر من ثلث أعضاء الـمجلس الوطني الفلسطيني تطالب بوقف الـمفاوضات إلى أن تتم الـموافقة على اشتراك "م ت ف فيها" رسميا، وإلى أن يتم تجميد الاستيطان الإسرائيلي. و بلغ الاحتقان حدا قرر معه الـمجلس الثوري لـ "فتح"، عشية الدورة التاسعة للـمباحثات (أواخر نيسان/أبريل 1993)، وقف العملية. ومرة أخرى، هدد عرفات بالاستقالة وفرض عليهم التراجع، كان يخشى أن يتمكن الأميركيون والإسرائيليون من الانفراد بالوفد الفلسطيني وعزله تدريجيا، ما يشكل تهديدا للشعب الفلسطيني ولـ" م ت ف". لهذا السبب ظل عرفات متوخيا أقصى درجات الحذر، ينتبه لأقل تفصيل من تفاصيل الـمحادثات، ويقارن بين الـمعلومات ويربطها ببعضها البعض، خاصة انه كان قد سمح لعدد من مساعديه بفتح قناة محادثات سرية مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية ،وكان يتابع مساري التفاوض العلني في واشنطن والسري في العاصمة النرويجية أوسلو .

انتظر كل من عرفات وشريكه في القناة السرية للمفاوضات..رئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين ، قبل دخولهما الشخصي في العملية ، ليتأكد كل منهما أن الآخر سيعطي موافقته على اقتراحات الـمفاوضين. وتأكد رابين من حقيقة لا تقبل التشكيك، وهي: استحالة الالتفاف على "م ت ف"، فهي التي تخوض الـمفاوضات السرية وهي التي تخوض الـمفاوضات العلنية، وهي وحدها، بقيادة عرفات، الضمانة لأية اتفاقية.

اقترحت إسرائيل في المفاوضات السرية  تسليم" غزة أولا"..لكن عرفات أصر على "غزة ـ أريحا أولا" ليؤكد وحدة الأراضي الفلسطينية المحتلة..الضفة الغربية وقطاع غزة  .

كان عرفات قد وجه من مقره بتونس، يوم 21 كانون الثاني/ديسمبر 1992، رسالة هاتفية إلى الإسرائيليين  نقلها التلفزيون الإسرائيلي، دعا فيها رئيس الوزراء  اسحق رابين إلى " لقاء الشجعان من أجل إقامة سلام الشجعان، الذي سوف تنظر إليه الأجيال القادمة على أنه الركيزة الأولى لبناء السلام "، مؤكدا أيضا "على  ضرورة القيام بمبادرات من كلا الطرفين لإقامة سلام حقيقي وثابت على هذه الأرض التي تعرضت لكثير من العذابات. إن مثل هذا اللقاء من شأنه أن يسرّع من عملية السلام"

كان عرفات يفكر في  كيفية حمل رابين على القبول بهذا اللقاء، فعمل عرفات في اتجاهين: بتسريع محادثات السلام من جهة، ولكن بتصعيد الانتفاضة أيضا، وهكذا دعا عرفات الفلسطينيين في الأراضي الـمحتلة إلى تصعيد الـمقاومة، وإلى "حرق الأرض تحت أقدام الـمحتلين".

في ربيع 1993، قدّم عرفات عن طريق الوفد الفلسطيني في واشنطن سلسلة من الـمطالب: ضم ممثلين رسميين عن" م ت ف " إلى الوفد، عودة الاتصالات الـمباشرة مع الولايات الـمتحدة، اعتراف إسرائيل رسميا بمنظمة التحرير الفلسطينية. وأشاع أيضا أنه لن يسمح بأي تقدم في محادثات واشنطن إن لـم تعالج مسألة السيادة الفلسطينية بوضوح في الاتفاقيات الـمرحلية. بالتوازي مع ذلك، قدم اقتراحا عن طريق الـمستشار النمساوي فرانز فرانيتسكي ينص على أن يقوم الـمندوبون الفلسطينيون والإسرائيليون، بمساعدة الأميركيين، بإبرام اتفاقية مبادئ حول الحكم الذاتي في الأراضي الـمحتلة.

 أخيرا، وجه في حزيران/يونيو رسالة سرية مهمة إلى رابين أكد فيها  أنه هو الوحيد القادر على حمل الفلسطينيين على عقد اتفاقية مع إسرائيل. وما لبث الوفدان المتفاوضان في أوسلو  بعد ذلك أن تبادلا  سرا مسودة الاتفاقية. 

و في 20 آب/أغسطس1993، أبرمت اتفاقية أوسلو في جو من الغبطة، وعقب عرفات من تونس قائلا:"أشعر أن الدولة الفلسطينية ليست بعيدة، يجب أن ننظر إلى الـمستقبل بعين الأمل".

في أواخر الشهر نفسه ، أرسل الرئيس عرفات  الوفد الفلسطيني إلى واشنطن، حيث افتتحت الجلسة الحادية عشرة للـمحادثات  للتفاوض حول خيار " غزة ـ أريحا أولا "، وفقا للاتفاقيات.

وأطلع عرفات  أعضاءَ اللجنة التنفيذية للمنظمة على مشروع  إعلان مبادئ ينص على إقامة سلطة وطنية فلسطينية في الأراضي الـمحتلة خلال الفترة الإنتقالية، على أساس حق الشعب الفلسطيني في السيطرة على أرضه، وعلى موارده، وعلى مقدّراته الوطنية.

رحلة اوسلو...

وفي 13أيلول/سبتمبر1993وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل في البيت الأبيض بواشنطن" اتفاق أوسلو"بحضور الزعيم الفلسطيني.

وها هو عرفات يعود إلى الولايات المتحدة لاول مرة منذ وقفته الشهيرة في الامم المتحدة في نيويورك قبل 19 سنة ،لكنه الآن ببزته العسكرية في البيت الابيض يصافح اسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل " ليصنع معه سلام الشجعان."

رأى عرفات في الحدث اعترافا بالشعب الفلسطيني وبحقوقه من الذين حاولوا شطبه من الوجود، وهذا الاعتراف يتم برعاية بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأميركية القوة العظمى في العالم، انها  خطوة تمهيدية لاقامة دولة فلسطينية مستقلة تمارس سيادتها على الضفة الغربية ( بما فيها القدس الشرقية)  وقطاع غزة .

أما رابين فرأى فيه بداية تسوية لنزاع طويل وعسير مع الفلسطينيين،كان عرفات مدركا تماما للثغرات في اتفاقية اوسلو ، لكنه كما قال"ما حصلنا عليه هو أقصى ما استطعنا الحصول عليه، وأقصى ما استطاعوا تقديمه لنا، وخلال أشهر ستعود قيادة الشعب الفلسطيني إلى الوطن، وسيخفق العلم الفلسطيني على الارض الفلسطينية، وسيكون لنا جواز سفر لننظر إلى المستقبل" .

وها هو عرفات ..قائد الشعب الفلسطيني ورمز قضيته  يدخل إلى البيت الأبيض من أوسع أبوابه، ويدخل أيضا إلى وسائل الإعلام الأميركية التي استغلها  ببراعة. دعته كل الـمنابر التلفزيونية ليتحدث عن عملية السلام، وحتى عن أرئيل شارون، فحاز على اعجاب محاوريه وزادت شعبيته.

لقي الاتفاق معارضة وانتقادات من البعض في الساحة الفلسطينية لكنه لقي ترحيبا شعبييا واسعا في الضفة الغربية وقطاع عزة ،حتى بين اللاجئين في المخيمات داخل الوطن وفي الشتات لقي الإتفاق ترحيبا وأثار آمالا بإمكانية تغيير الواقع وبمستقبل أفضل.

وفي 12تشرين الأول/أكتوبر1993صادق المجلس المركزي الفلسطيني على الإتفاقيةبـ63 صوتا ومعارضة 8وامتناع 9،كما صادق على تشكيل أول سلطة وطنيةفلسطينية في التاريخ وهي التي ستتولى إدارة الأراضي المحتلة إلى أن تجري الانتخابات.
في تلك الأثناء، كانت الاتصالات تجري للإعداد للقمة الثلاثية بين عرفات وكلينتون وباراك، برغم تحفظ الرئيس الفلسطيني، الذي كان يخشى المشاركة فيها ويكرر القول أن قمة غير معد لها جيدا سوف يكون نصيبها الفشل، وسوف تؤدي إلى تصعيد خطير.

وفي لقاء مع كلينتون في واشنطن، يوم 15 حزيران/يونيو 2000 ، حذر عرفات الرئيس الأميركي من أية محاولة لفرض حل عليه.

وفي هذا السياق  قال عرفات معلقا على تأكيدات كلينتون بأن باراك لن يوافق على حق اللاجئين في العودة ولا على السيادة الفلسطينية على القدس: لدي حل..أستقيل، وأغادر الأراضي الفلسطينية لأستقر في القاهرة أو في تونس، وسيكون على باراك أن يسوي الأمور مباشرة مع الشعب الفلسطيني.

 

وتستمر المسيرة..

 وحدد موعد القمة يوم 11 تموز/يوليو 2000 في كامب ديفيد بالولايات المتحدة،وبرغم كل تقديراته، لم يكن بوسع الرئيس الفلسطيني رفض دعوة كلينتون، الذي برهن عن دعمه له مرات عديدة منذ 1993، مر عرفات بفترة من الإحباط الشديد..شعر أنه حشر في زاوية، فعقد اجتماعا للقيادة الفلسطينية قبل أربعة أيام من القمة ليحصل على موافقتها على الذهاب إلى كامب ديفيد. وحصل على  وعد من كلينتون أمام محمود عباس "ابو مازن" بأنه على كل حال لن يحمله  النتائج إذا فشلت القمة.

طوال الأيام الخمسة عشر للقمة، وبرغم" تأنيب" مادلين أولبرايت لباراك وقيامها بلفت نظره مرات عديدة بأنه هو الذي أراد هذه القمة، أصر رئيس الوزراء الإسرائيلي على تجنب أي لقاء ثنائي مع الرئيس عرفات، وكان يرد  بأنه لن يفعل ما لم يوافق عرفات على الأفكار التي اقترحها الرئيس الأميركي.

هذه الأفكار، التي اقترحها كلينتون علنا بعد أيام من افتتاح القمة، كانت قد أعدت في الواقع بالتعاون مع الإسرائيليين.

 كان التفاوض، بالنسبة لباراك، يعني قبل كل شيء فرض الاقتراحات، التي كان يتم تناقلها شفويا لان رئيس الوزراء الإسرائيلي منع  مساعديه منعا باتا من كتابتها.

 كان الوفد الفلسطيني  مقتنعا تماما بأن باراك لا يريد السلام، بل يريد حشر عرفات في زاوية لا يستطيع معها إلا رفض سلسلة من الاقتراحات غير المقبولة، مثل إنشاء كنيس في حرم المسجد الأقصى ، ثالث الأماكن الإسلامية المقدسة. ووفقا لهذا الاقتراح، سوف تقسم منطقة الحرم القدسي الشريف أو ما سمي بـ "تلك التلة المقدسة"  أفقيا  بين المسلمين واليهود، يكون للمسلمين فيها الحرم الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ويكون لليهود المكان الذي يزعمون أنه أساسات المعبد اليهودي القديم.

كان هذا العرض بالنسبة لعرفات دليلا قاطعا على أن باراك يريد نسف القمة، وأن هذه القمة نفسها ليست سوى فخ. رد عرفات  قائلا:  إنني أرفض التخلي عن أي جزء من الحرم الشريف، حتى مقابل حيفا أو يافا، وأضاف مخاطبا كلينتون: لن أبيع القدس ولن يسجل عليّ التاريخ أنني خائن. هل تريدون قتلي؟ أنا رجل مؤمن ولن أسمح بأن يُسجل عليّ أنني بعت كنائس القدس والحرم الشريف إلى إسرائيل. أنا رجل سلام وأطمح إلى تحقيق السلام والمصالحة التاريخية، وليس إلى إقامة بؤر جديدة للحرائق.  ...  الحرم الشريف هو ملك المسلمين منذ بداية الإسلام وحتى يومنا هذا، باستثناء حقبة الصليبيين.  

وفي اجتماع آخر له مع كلينتون، قال عرفات محتدا: لن يغفر لي مليار مسلم إذا تخليت عن السيادة التامة على القدس الشرقية. لا أملك أي تفويض بالتخلي عنها. حينئذ رد عليه كلينتون غاضبا: أنت تدفع شعبك وشعوب المنطقة كلها إلى الكارثة  ...أنت على وشك فقدان صداقتي. فأجابه عرفات: لن أوقع اتفاقية بدون القدس. أنت تنسق اقتراحاتك مع الإسرائيليين. أما أنا، فيتعين علي أن أنسق مع العرب جميعهم وليس فقط مع الإسرائيليين.

فقال كلينتون: لماذا لا تناقش هذه النقطة مباشرة مع باراك وتجدا حلا لها؟رد  عرفات: ليس لدى باراك غير كلام في الهواء. لم يقترح عليّ شيئا، سوى ضم القدس لإسرائيل.

واستنادا إلى قرار مجلس الأمن 242، طالب عرفات بأن تكون القدس الشرقية المحتلة منذ 1967 كلها تحت السيطرة الفلسطينية، متنازلا عن الحي اليهودي الذي يقع داخل المدينة وعن حائط المبكى. غير أن الاقتراح الإسرائيلي لا يعطي الفلسطينيين سوى الضواحي والقرى المحيطة بالقدس، ونوعا من السلطة البلدية في الأحياء الإسلامية والمسيحية في البلدة القديمة وداخل المدينة. كان باراك يرى أن إسرائيل يجب أن تحتفظ بالسيطرة الكاملة على القدس -الغربية والشرقية- وأن المدينة يجب أن "تبقى" عاصمة دولة إسرائيل فقط . ووفقا لمنطق باراك فإن العاصمةالفلسطينية يجب أن تكون في قرية أبو ديس، جنوبي القدس. ورد عرفات على ذلك بـ "غير مقبول أبدا".

وبخصوص قضية اللاجئين، اعتبر عرفات أن اقتراحات باراك مهينة: لا وجود لأي اعتراف بمسؤولية إسرائيل عن هذه القضية، لا وجود لأية اتفاقية، حتى ولو رمزية، حول حق العودة للاجئين (وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 في كانون الأول 1948). اكتفت إسرائيل، خلال الاجتماعات الثلاثة الأخيرة التي كرست للتفاوض حول هذه المشكلة، بالموافقة على عودة 5000 لاجئ لمرة واحدة، أو 000ر10 لاجئ على مدى عشر سنوات ــ وذلك في إطار اتفاقية سلام، على أن تذكر فيها عبارة " نهاية النزاع" ، وهذا ما رفضه عرفات رفضا قاطعا.

 والقضية الأساسية الثالثة تتعلق بالحدود والمستوطنات المقامة على الأراضي المحتلة. اقترح الإسرائيليون على الفلسطينيين تسليمهم 81% من أراضي الضفة الغربية، مقسمة إلى ثلاثة كانتونات دون أي اتصال جغرافي بينها، ومحاطة بمناطق تحت السيادة الإسرائيلية. وفقا لهذا الاقتراح، تسيطر الدولة العبرية على كافة نقاط العبور الحدودية مع الخارج، وكذلك على الفضاء الجوي ومصادر المياه الجوفية في الضفة الغربية. تؤجَر 10% من الضفة الغربية ــ منطقة وادي الأردن ــ إلى إسرائيل لمدة 25 عاما ــ أي للأبد من ناحية فعلية، لأن هذه المنطقة الخصبة جدا سوف تكتظ بالمستوطنات بسرعة. يضاف إلى ذلك 10% من الأراضي الفلسطينية التي تضم ثلاث كتل استيطانية يقيم فيها 80% من المستوطنين سوف تضمها إسرائيل. بالمقابل، تعطي إسرائيل للفلسطينيين أراضي قاحلة، بمعدل 100 متر مربع لكل كيلو متر تضمه.

رفض عرفات  التراجع  عن الترتيبات الشرعية التي نص عليها القرار 242، فقد اعتبر أنه، باتفاقيات أوسلو عام 1993، قدم الفلسطينيون ما يكفي من التسويات بقبولهم ما نسبته 22% من فلسطين التاريخية، أي الضفة الغربية وقطاع غزة ، ورفض عرفات التخلي عن أراض جديدة للمستوطنات التي كثفت إسرائيل إقامتها ضاربة بالقوانين الدولية عرض الحائط.

رفض ياسر عرفات اقتراحات كلينتون، الذي قال أنه يحاول من خلالها تقريب وجهات نظر الطرفين .

وفي صباح 25 تموز/يوليو، خيم جو ثقيل على كامب ديفيد ..التقى كلينتون بعرفات وباراك، وبعد أن عبر عن أسفه للمأزق التام الذي تواجهه القمة، طلب من الطرفين مواصلة مباحثاتهما من أجل التوصل إلى اتفاق في منتصف أيلول.. وافق الطرفان.

و في اجتماع ثنائي عقد بينهما فيما بعد، عبر كلينتون لعرفات عن احترامه لمواقفه الحازمة والثابتة إلا أنه لم يكشف هذا  الكلام في أحاديثه العلنية. بل على العكس ،فما أن أنهت القمة أعمالها، حتى راح كلينتون في الواقع يكيل الانتقادات لعرفات، حانثا بوعده بألا يُحمّل عرفات المسؤولية في حال فشل المفاوضات.و في مقابلة مع القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 28 تموز/يوليو، وقف الرئيس الأميركي إلى جانب باراك  معتبرا أنه " برهن على شجاعة كبيرة"، وأعلن عن تعزيز التعاون الثنائي مع إسرائيل، بل ذهب حتى إلى الحديث عن إعادة البحث في احتمال نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

أدرك الرئيس الفلسطيني أن الرجل الذي نصّب نفسه حكما محايدا قد "خانه"، ورأى في هذه التصريحات برهانا على أن القمة لم تكن سوى "مؤامرة". وتأكد بأنه كان على صواب برفضه للاقتراحات الإسرائيلية، واطمأن إلى هذه القناعة أكثر حين خرجت مظاهرات التأييد الحاشدة في قطاع غزة والضفة الغربية ومخيمات الشتات ، والتي عبّرت عن أضخم دعم شعبي له منذ وصوله إلى غزة وأريحا في 1994. أما باراك، فقد خرج بالنتيجة التي كان قد أعدها  سلفا: لا يوجد شريك للإسرائيليين. وحينئذ بدأت حملة يقودها بعض المسؤولين الإسرائيليين هدفها البرهنة على أن عرفات لم يكف في كامب ديفيد عن رفض "العروض السخية الإسرائيلية" المزعومة. لم يكن الرأي العام العالمي على هذا القدر من السذاجة لتصديق هذه الادعاءات، أما في إسرائيل فقد أبدى الرأي العام قدرا من التغاضي لدرجة أن معسكر السلام لم يعترض بحزم على رواية باراك. لكن باراك نفسه اعترف في وقت لاحق في مقابلة له مع صحيفة" هآرتس" الإسرائيلية  بأنه أراد من كامب ديفيد فقط  "كشف القناع "عن وجه عرفات، ووصفه بأنه "عدو السلام ".